loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

يقظة

breakLine


سلمى الغزاوي/ كاتبة و مترجمة مغربية

 

أنا:
أخمد ضجيج اللامعنى الذي يطوف حولي، تنطفئ أضواء الحياة المخاتلة بصخبها وإلهاءاتها، العالم الخارجي الناضح بالعَبَث، الزيف، النفاق والخداع يصير بمثابة لوحة جامدة، بلا ألوان نابضة، كتبي تتماهى الآن في نظري مع وصايا، أغمض مقلتي المتعبتين، وأنتشي بالصمت الذي يغلفني، صمت لا يتخلله سوى صوت "فريدي ميركوري" وهو يشدو "ملحمته البوهيمية" متسائلا بحيرة: 
- "أهذه هي الحياة الحقيقية، أم أنها مجرد فانتازيا؟"
أراقص ظلي، أراقص الألم المستعر الذي يتفرع من خاصرتي ممتدا إلى كل حيز من جسدي، أخلع رأسي المتعب الذي تنهشه الكلمات والتساؤلات اللامجدية، عساني أكف عن النظر بغرابة عبر حاجز زجاجي زائف إلى تلك الهادئة، المبتهجة، التي أتأملها من بعيد، وأنا قابعة في ركن قصي داخل غرفتي المظلمة..
أتجاهلها، إنها مجرد تهيؤ محموم صنعته مخيلتي الجامحة هربا من سعير الألم المقيم وسلاسل المرض، أتخيلني أجيب فريدي عن تساؤله الوجودي المحير وأنا أصيح ملء الوجع:
- إنها مجرد فانتازيا..
هي:
تجلس قبالتي، في استكانة ورضا تام، لم تكن يوما هكذا، كانت تفيض حيوية وتملك طاقة متجددة، وكان توقها وطموحها يجعلانها لا تكتفي أبدا مهما حصدت، كما كانت تثرثر مع كل الناس طوال الوقت، ربما هربا من صوتها الداخلي الذي كان يقض مضجعها، قبل أن تصوم عن الكلام إلا مع الورق، بعدما هلعت وهي تكتشف أن معظم من كانت تسمعهم، تواسيهم، تتحمل تقلباتهم، تساعدهم على ترميم خرائبهم الداخلية، مجرد مسوخ، ظلال، أو بالأحرى شياطين، لم تنج منهم ومن دخول تجارب موغلة في الأذى والوحشية معهم، رغم أنها لطالما رددت:
- "لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير!"
هي الآن، أخرست نفسها، واختارت العزلة لتكون رفيقتها، ورضيت بالوجع الذي يقضم خاصرتها، حساسيتها التي تكاد أن تودي بها مرارا إلى المنتهى إذا ما اجترحت أية زلة، كما استسلمت للحرائق التي تشب في رأسها بين الفينة والأخرى، لأن كل ما تعانيه في درب آلامها، أهون ألف مرة من الألم الذي تخلفه سموم وطعنات الشياطين، في تجارب وادي الهلاك..
ومع ذلك، لا زالت تحاول باستماتة أن ترتق أحلامها بإبرة الأمل، وتشيد صروحا ملؤها أمنيات تعانق السماء، تلتحف عزلتها/ درعها الوقائي من الصدمات، تحضن روحها وتبتسم برضا واكتفاء، كما لم تبتسم من قبل، طوال حياتها التي حسبت خطأ أنها لا بد وأن تكرسها لإرضاء الآخرين، العابرين..
هي الآن، تجرب أن تحمي وترضي نفسها، أن تختار بنفسها ما تشاء وتنتشي بقول "لا" عوض إغداقها اللا عقلاني لكلمة نعم حتى حينما تكون الإجابة الصحيحة لاتقاء مزيد من حصاد الندم هي "لا" إمعانا في الرفض، تفكر: لا ريب في أن التجارب العبثية والرقصات التعذيبية مع الشياطين فوق هاوية الغدر مؤذية، ولكن لولاها لما تغيرت نظرتها للحياة، ولما أصاخت السمع لأول مرة إلى أنات روحها المكتومة، رغباتها الخفية، حدسها وتحذيراتها التي تصيب دوما.. لقد تجاوزت الكثير ودفعت ثمنا باهظا نظير الارتقاء إلى اليقظة الروحية والصفاء الذهني، لذا ما عادت تتخيل العودة إلى ذات المتاهة الكابوسية..
تغفو وهي تشعر أخيرا بالأمان، دون أن تمزق نوبات الهلع صدرها الصغير، بعد أن فارقتها كوابيسها المتكررة إلى غير رجعة، وتبخرت ذكرياتها الوهمية ومخاوفها الطفولية، وعلى شفتيها ابتسامة عريضة، نكاية في الوجع، لأنها الآن فقط، تعيش حقا، وستعيش، من أجلها ومن أجل رؤاها ورضاها وسعادتها أولا..
أنا:
أتساءل: أتراني أفرطت في تأمل نفسي وحياتي عن بُعد كما نصحني طبيبي؟ 
أرنو إلى نسختي الجديدة المنقحة من المزايا/ العيوب التي كانت تسبب ارتطامي بالتجارب الشريرة، أتحرر من الماضي الذي لا وجود له إلا في مخيلتي الديستوبية،  أستقدح الأمل والحلم من رحم الألم اللصيق بي كتوأم مشوه، أعتمر رأسي بعدما استحال صِنو ورقة عذراء، لأكتشف أن تأمل ذاتك وحياتك عن بعد وكأنها لا تخصك ولا تعنيك فكرة مذهلة، تُصَيِّرُكَ فراشة تحلق  في سماء التحول والتغيير..
تهمس لي هي/ النسخة النهائية مني:
- هذه هي الحياة الحقيقية التي كنت تتهربين من عيشها بلجوئك إلى عوالمك الفانتازية المبتدعة من خيالك!