loader
MaskImg

ديوان نخيل

يعنى بالنصوص الشعرية والادبية

الجدار الأبدي

breakLine
2022-11-25

الجدار الأبدي

 


قصة :ريموند .ز غلوون


ترجمة المترجم العراقي  / ناظم مزهر


: رايموند زد. غَلوونRaymond.Z.Gallun كاتب خيال علمي أمريكي ولد سنة 1911وتوفي في 1994 ترك دراسته الجامعية منذ السنة الأولى وغادر إلى أوربا ليعمل من اجل العيش في عدة مهن حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية . يعتبر (غَلوون) من أوائل كتاب أدب الخيال العلمي الذين ساهموا في ترسيخ هذا النوع من الأدب عبر النشر في المجلات المتخصصة في هذا النوع من الأدب في ثلاثينيات القرن الماضي ويعتبر أيضا من أوائل الكتاب الذين طرحوا فكرة تطبيع الكواكب الأخرى لسكن بني الإنسان أو تطبيع كوكب الأرض لسكن أجناس من الفضاء الخارجي ويُعد غلوون من أوائل كتّاب قصص الخيال العلمي الذين عارضوا الصورة الشريرة التي رسختها كتابات الخيال العلمي في المخلوقات الفضائية على أنها عدوانية تروم تدمير الحضارة الإنسانية وغزو الأرض ونهب ثرواتها؛ ولهذا كانت أغلب أعمال هذا الكاتب ذات نظرة إيجابية فيما يخص سكنة الكواكب المأهولة ومنها المريخ على سبيل المثال الذي أصبح آلهة الحرب عند قدماء الإغريق ومصدر خطر دائم لدى الكثير من الكُتّاب. لقد رسم لنا الكاتب غلوون صورة سلمية محبة للخير عندما نشر روايته القصيرة (المخلص العجوز) Old Faithful وهي أول رواية صدرت له وفيها نجد شخصية المخلوق المريخي كصديق وليس عدواً. وأصبحت هذه الرواية منذ صدورها وأعيد نشرها لمرات عديدة كحجر الأساس لأدب الخيال العلمي الذي يطرح فكرة العلاقة الوديّة بين الإنسان والمخلوقات الأخرى وقد استقطبت أعداد هائلة من القراء ومازالت محط إعجاب النقاد والناشرين على حدٍ سواء .لقد صرح الكاتب المعاصر إسحاق عظيموف قائلا عن هذه الرواية إنها فعلا انعطافة كبيرة في وجهة نظرنا  للمخلوقات الكونية. .ومن الأعمال الأخرى لكاتبنا :" الماكنة التي فكرت "سنة 1940. جواز سفر إلى كوكب المشتري" سنة 1951 " الناس ناقص س " سنة 1957." دورة جنات عدن" و "الانفجار الأحيائي" وروايات أخرى.


*
"إلى اللقاء بعد نصف ساعة يا (بَتي) . قال نَد فنس لصديقته عبر هاتف الحفلة، " سنذهب إلى نادي السلة الفضية قبل العاشرة والنصف..."
كان (نَد) متلهفا للقاء حبيبته  ولهذا السبب كان في عجلة من أمره للوصول إلى مدينة "هيرلي" حيث تعيش (بَتي) .زمجرت سيارته القديمة وأرعدت وهو ينطلق بها مسرعا. لكن يَد المَنيّة هناك كانت له بالمرصاد؛ نكز أصبع الموت كتفه وقال له من الخلف: "ها قَد ظفرتُ بِك أخيراً يا هذا !". وإذا به يتفاجأ بسيارة  تطير أمامه فوق إحدى الصخور الكبيرة عند منعطف الطريق ، مصابيحها العالية قد شوشت عليه الرؤية وهو بأقصى سرعته ولكي يتجنب الاصطدام المهول بها انحرف يميناً على جانب الطريق لكنه لَمْ يسيطر و اصطدم بالحاجز الحديدي ابيض اللون ليهوي نحو منحدر شديد وتصطدمسيارته  بإحدى الصخور الناتئة لتطير هي الأخرى ثم تهبط بكل هدوء مثل طائر البجع وتغوص في المياه الزرقاء للبحيرة بعمق خمسة عشر مترا ...
كان (نَد) قد رأى الماء الهائج يحيط به وهو يشعر بالدوار نتيجة إصابة رأسه،و شعر بغصة المياه في حنجرته تمنعه من الصراخ بينما كانت السيارة تنزل ببطء نحو القاع وهو بداخلها مستسلما لقدره. كان البحيرة عبارة عن شق أرضي عميق تغذيه ينابيع جوفية لا يُعرَفُ قرارها، أمّا حافاتها البيض فقد امتلأت بالطيور الميتة بسبب كثافة قلوية الماء الذي اندفع عبر الفتحات والشقوق من أرضية السيارة ، فأدرك (نَد) أن نهايته قد حلّت و ليس بإمكان أحد من أهله أو أصدقاءه العثور على جثته في هذا الأخدود المائي الرهيب حيث استقر داخل سيارته بعد أن انطفأت أضواء المؤشرات أمامه وتركته في ظلام حالك يصارع دوامات الماء المندفعة من النوافذ المهشمة . حاول مستميتاً أن يفتح الباب وهو في رمقه الأخير لكن اللسان الحديدي نتيجة الاصطدام قد تعشقَ بهيكل السيارة ومن المستحيل أن يُفتح بسبب قوة ضغط الماء. كانت الضربة التي تلقاها (نَد) على جبينه قد جعلت وعيه في سحابة من ضباب كثيف. لَمْ يعد قادرا على التنفس بعد أن امتلأت رئتاه بالماء. لكن آخر ما مَرّ في ذهنه وهو يغرق ورشة التصليح التي يمتلكها والده في بلدة هارويج . وكذلك لاحت له العينان الايرلنديتان المبتسمتان لصديقته ( بَتي) التي اتفق معها أن يلتحقا بالجامعة في خريف هذه السنة ثم يتزوجا لاحقا... وداعا لعينيك (بَتي)... هكذا مَرَّت الأغنية بخاطره.الفقاعات التي ملأت سطح الماء قد هدأت أخيراً و صفا سطح البحيرة صقيلاً كالزجاج الأملس وأطلت نجوم الأبدية ترقد بهدوء في السماء ، أما تلك التلال الموغلة في القدم على ارض ولاية داكوتا والتي ربما شهدت عصر الديناصورات فما زالت هي هي، مرصوفة على طول الطريق. الزمن ظَهير الموت ومغيّر كل حال وحده ينتظر...:
*
" كاللييييي ! تك ! تك!...كالليييييي..."
هكذا تردد صدى هذه الصرخة التي لَمْ تكن صادرة أبداً عن حنجرة بشرية وتصاعدت بكل خفوت من أعماق الشق الأرضي الذي جَف وغَطتهُ الكثبان الرملية واصبح الماء مجرد ذكرى من الزمن الغابر. كانت شمس الظهيرة حمراء كبيرة والهواء قليل الكثافة جاف وبارد.
" كاللييييي ! تك ! تك! تك...كالليييييي..."
في البداية لَمْ يكن هناك غير صوت واحد اطلقَ مثل هذه الأصوات الغريبة بنبرة انتصار ثم تلته الحناجر الأُخرى وهي تردد مثل هذا الهتاف المُقرف وتلك الضحكات الحادة المتلهفة وحناجر أُخرى تسأل في عجب بذات النبرةالمضطربة ،لا إحساس بشري فيها مثل رطانة مخلوقات غريبة اكتشفت شيئا تراه لأول مَرّة.
كانت الوهاد حول الشق الأرضي ساكنة لا حياة فيها باستثناء هَبّات باردة ومخيفة من غبار لَمْ يعرف طعم الماء منذ عصور غابرة .تَمرُّ تلك النفحات الجافة على نتوءات الصخور حيث تَحجَّرَ ما تَبقى من طَحالب كانت ذات زمن ترفل بالحياة . حتى التلال لَمْ تعد كما كانت بعد أن تآكلت بمرور أزمان سحيقة لا تُعد ولا تُحصى. وعلى مسافة اكثر من كيلومتر لاحت أكَمة حمراء؛ هي بقايا من هَيكل قديم كان ذات يوم صرحاً شامخا بهيكله الفولاذي ؛منصة اطلاق كأنها المنجنيق لآخر المركبات الفضائية التي حاولت أن تهجر كوكب الأرض قبل اكثر من نصف مليون سنة . لقد إختفى الإنسان من على وجه الأرض أو ارتحل نحو كواكب أخرى أما بسبب تجدد الزحف الجليدي أو بسبب الحروب والأوبئة.
" كاللييييي ! تك ! تك! تك...كالليييييي..."
هذه الأصوات الغريبة لَمْ تكن بشرية في نبراتها الحنجرية بل هي أقرب إلى غمغمة حيوانات صحراوية صغيرة. لكن هنا في أعماق هذا الشق الأرضي يوجد ثمة تناقض أيضا وهو لمعان معدن صقيل لصاروخ نووي جاهز للأطلاق بإمكانه ،لو انطلق، إزاحة كل الصخور والرمال وما تبقى من بقايا أثرية . يبدو أن الإنسان قد تلاشى تماماً وحلَّ مَحله أسيادٌ جدد على سطح الأرض.
وهكذا أمر العالم (لوي جوك) أفراد بعثته الجيولوجية من مغادرة الأعماق الأرضية والاتجاه شرقا بعيدا عن مدينة (كار- راه) وبقى وهو يجلسمتقرفصا في أعماق الشق الجاف سعيداً باكتشافه العلمي الكبير الذي عُرِفَ باسم (كاليي) . كانت الرياح تداعب فراء العالم(لوي جوك) بُني اللون وهو أصلا لا يختلف كثيرا عن أسلافه ؛لا يتجاوز طوله القدم الواحدة ربما لأنه جالس على مؤخرته مثل بقية أبناء جنسه ؛ له ذيل قصير مكسو بالفراء وذو بطن بيضاء حليبية اللون ، أما خطمه وردي اللون فقد تناثرت على جانبيه شعيرات شاربيه ، لكن قحف جمجمته كان منتفخاً وبارزاً من الأمام بين عينيه الخرزيتين الذكيتين . لقد بدا واضحاً أن تقدم قحف جمجمته نحو الأمام يثبت ،ما ورثه عبر عصور من النشوء والارتقاء و البقاء للأصلح في هذا النوع من المخلوقات التي اصبح لديها القدرة على أن تفكر وتتأملوتخترع . لقد تجاوزت حضارتها كثيرا الحضارة  المنقرضة لبني آدم.
كان (لوي جوك) وفريقه مجتمعين فرحين بما اكتشفوه في حفرياتهم هذه التي ترى النور لأول مَرّة. كان هناك فجوة في الحطام قد وُضع بداخلها جسم مكور اقرب إلى لون الخشب العتيق؛ مادة صلبه قد كساها الطين اليابس مثل كفن ضد تسرب الهواء رغم انه تقشّر الآن على أيدي المنقبين صغار الحجم لكن التربة مازالت عالقة به منذ ملايين السنين. كل المعادن قد تحللت وتفتت باستثناء هذه الكتلة المكسوة بالطين . لماذا؟ الإجابة بسيطة هي أن المواد المشبعة بالقلويات تحافظ على التركيب الكيميائي للأنسجة العضوية مهما طال الزمن يساعدها في ذلك الجفاف الصحراوي الذي أصاب مقاطعة (داكوتا) على نحو سريع. هذه الكتلة المكسوة بالطين ليست من المتحجرات العادية؛ إنها مومياء بشرية. " كاليي" التي تعني الإنسان القديم مكتشف أولى المركبات الفضائية. لقد شَعَرَ (لوي جوك) وفريقه الاستكشافي بسعادة كبيرة لِما وصلوا اليه في علم المتحجرات البشرية. لابد أن حدثاً كبيراً قد وقع على سطح الأرض في القرن الواحد والعشرين جعلالمنقبين متحمسين لمزيدٍ من المعرفة حول هذا الاكتشاف النادر.
وأخيرا اصدر (لوي جوك) صفيراً من البهجة وهو يحمل أدوات الفحص  اللامعة بين يديه الصغيرتين. كان من بين هذه الأدوات ناظور صغير معقد التركيب يستطيع فيه رؤية صورة مجسمة لباطن المومياءالبشرية؛ وحين وضع هذا الجهاز حول عينيه استطاع أن يرى على شاشته الصغيرة المضاءة بأشعة أكس الأحشاء الداخلية للمومياء البشرية (كاليي) التي يُقدّر عمرها بملايين السنين ومما جعل العالم(لوي) أكثر فرحا وهو ينقل ما يراه إلى فريقه عبر أصوات خاصة قائلا لهم رغم إن المومياء خالية من أدنى درجات الرطوبة إلا أنها محفوظة بشكل كامل بما فيها خلايا الدماغ ولدينا علوم طبية وإحيائية قادرة الآن على إعادة هذه المومياء إلى الحياة وجعلها تتحرك وتتكلم بل وتتذكر ماضيها الذي دفنت فيه. يا لروعة هذا الاكتشاف في دراسته لمتاحف (كار- راه) !
"تك ،تك تك!..."
لكن (لوي) أمر بالكفِّ عن مشاعر الاحتفال بهذا الاكتشاف والتوجه إلى العمل الجاد. وهكذا بدأوا باستخدام معدات يدوية أكثر دقة لفصل مومياء (نَد فينس) عما تبقى من صدأ لا ينفع من سيارته البدائية. وبعناية فائقة وُضِعت المومياء في حاوية معدنية محكمة وتَم نقلها بالصحن الطائر الذي اندفع مخلفا وراءه كتله لهب وعلى متنه اكثر من مئة عضو من بعثة التنقيب ليتجه شرقا بسرعة رصاصة. هكذا بدت لهم الأرض المنبسطة لأمريكا الشمالية وهي تتراجع أمام أعينهم نحو الأسفل؛ مجرد صحراء رملية تلوح على سطحها ما يشبه الكثبان الرملية لمدن بشرية انقرضت إلى الأبد منذ ملايين السنين حيث لاح بياض الأملاح يغطي تلالها عدا بعض البقع الخضراء مِمّا تبقى من قاع المحيط الأطلسي المندثر الذي لَمْ يكن ميتا بتلك الدرجة التي طالت المرتفعات المحيطة به، و في الوادي السحيق لاحت لأفراد البعثة مدينتهم (كار- راه) ،مدينة القوارض ببنايتها الكريستالية ذات القِباب وممراتها اللامعة تحت ضوء شمس حمراء ،لكن هذا مجرد مشهد سطحي لأن هذهِ المخلوقات بنت بيوتها تحت الأرض منذ بداية عصر ارتقائهم وتطورهم الغامض أيام كانت الدنيا باردة  فكانت تلك الممرات والغرف تحت الأرض مكانا آمناً.
هكذا تم نقل المومياء المتحجرة للإنسان إلى مختبر العالم (لوي جوك) تحت الأرض حيث شرع في عمله فوراً بعد أن وضعها في حافظة زجاجية كبيرة مليئة بالسوائل وراحوا يبدلون هذه السوائل مِراراً وتكراراً حتى استعادت خلاياها المتحجرة دبيب الحياة فيها مَرّة أُخرى. بعد ذلك بدأت العملية الأكثر دقة؛ عندما وضعوا الجثة تحت تأثير تيار كهربائي مشع يجدد من التركيب الكيميائي للخلايا وعنصر الطاقة فيها. وفي النهاية بعد ساعات من العمل المضني تم تفريغ المواد الحافظة من الوعاء الزجاجي حيث كانت الجثة البشرية تستلقي صامتة شاحبة مُجعدة. لكن (لوي جوك) ألبسها خوذة معدنية غريبة ثم ألبس رأسه خوذة أصغر حجماً يصل بينهما صندوق أسود متعدد الأغراض. ضغط العالم (لوي) بحماسة على زر آخر فتوهج شعاع الطاقة وردي بارد حول جسد (نَد فينس) عديم الحركة. أما بالنسبة إلى ذاكرة (نَد فينس) فإن الأبدية التي لا زمن لها قد بدأت بالانحسار مثل ضباب ينقشع تدريجياً. ولما بدأ يرى ما حوله بوضوح راح يدرك أن ثمة تغير صادم يحيط به بعد أن أعيدت إلى خلاياه الحياة ، وأصبح دماغه في حالة تواصل .ها هو الآن يستعيد وعيه وكأن ذاكرته حية مثلما كانت قبل يوم واحد فقط. في الوقت نفسه، من خلال وعاء الكريستال الذي هو فيه أصبح بإمكانه رؤية الغرفة الواسعة التي ليس له القدرة الكافية أن ينتصب فيها بسبب سقفها الواطئ. لقد رأى أدوات ومعدات غريبة لَمْ يسبق أن رأى مثلها في العصر الذي عاش فيه! كان لون جدران الغرفة ارجواني فيها متحجرات عظمية بعضها يعود إلى دينوصورات كما هو واضح من حجمها وبعضها يعود إلى كلاب وقردة ذات جماجم كبيرة . كان لغرابة هذه المناظر تأثيرها العنيف على مشاعر (نَد فنس) لقد شَعَرَ فجأة بالحنين المؤلم إلى الماضي. يبدو أن هناك خطأ رهيب لا يعرفه!  شَعَرَ بتوتر شديد واستبد به رعب متشنج من المجهول وكذلك من إفاقته الغريبة التي لَمْ يفهم منها شيئا لكنه تذكر لحظة غرقه حتى الموت في بحيرة منطقة (بت بند). امسك (نَد) بحافة الحافظة التي وضعوه فيها واستطاع أن يجلس بظهر مستقيم و يسمع ثمة لغط مكتوم حوله كما لو انه في مكان مزدحم.
" على مهلك يا نَد فينس..."
سمع هذه الكلمات كما لو أنها نُطقت من قبل أصدقاء قدامى لكن بلهجة غريبة على مسامعه ؛ نبرة صوت حادة وعالية وكأنها صادرة عن ببغاء أو جهاز تسجيل فراح يحملق بحثاً عن مصدر الصوت فوجده يصدر عن صندوق أسود قرب الحافظة الكريستالية التي وضعوه فيها. وراء هذا الصندوق كان يجلس مخلوق بني اللون ذو رأس مفلطحة. كانت مخالب هذا المخلوق تعمل على صفٍّ طويل من الأزرار .مثل هذا المشهد بالنسبة إلى (نَد) يعتبر غير معقول ولا يمكن أن يجد له تفسيراً. كيف لهذه المخلوقات التي تبدو أصغر حجما من الكلاب البرية أن تمتلك هكذا مرتبة عالية من ذكاء وقدرة على الكلام ، لكن الكلمات التي سمعها (نِد) كانت استفزازية أكثر مما هي مُطمئِنة لأنّها ببساطة لم تكُن صادرة عن حنجرة إنسان. ولَمْ يكن (ند فينس) يعلم كيف استطاع (لوي جوك) أن يكشف ويفحص ما يجري في دماغه باستعماله الخوذتين والصندوق أسود اللون. لا يعلم (ند) أن الصندوق هذا قد قرأ ما في دماغه الذي أعيد تنشيطه وتم تسجيل لغته وكان على (لوي جوك) أن يضغط على عدة أزرار ليكون الجهاز قادرا على التعبير عن الأفكار الموجودة في تلافيف الدماغ، فحصلوا على لغة إنكليزية قديمة منقرضة لَمْ يكن باستطاعة الجنس الذي ينتمي اليه (لوي) التحدث بها مع(ند) إلا عبر هذ الجهاز.
كان شعر (ند) الأسود منفوشا إلى حد ما وعلى وجهه الناحل ارتسمت علامات رعب غامض وتنهد متحسرا في الجو الغريب المحيط به وقال بهدوء غريب:
" لقد جَننت ..حقيقة جننت."
كان باستطاعة الصندوق الأسود الذي أعده (لوي جوك) أن يسجل الكلمات الإنكليزية بمجساته الصوتية ومؤشراته الضوئية ويترجمها في أذنيه فعرف ما قاله المخلوق البشري ند فينس.
لهذا ضغط لوي على المزيد من الأزرار وأعاد الجهاز رَدّه على كلام (ند):
" كلا يا (ند) لستَ مجنوناً لكن هناك أمور كثيرة حدثت وعليك أن تتقبلالأمر الواقع؛ غرقتَ قبل مليون سنة وانا الذي اكتشفت مومياءك المتحجرة واعدت إليك الحياة ؛علومنا تستطيع ذلك . أنا العالم لوي جوك..."
لَمْ يستغرق الأمر غير لحظات عندما أخبر الصندوق الأسود (ند) بكامل قصته بلغة بسيطة واضحة فيها الكثير من الود. هكذا جعل العالم (لوي)نموذجه البشري (ند) أن يشعر بالأمان كما لوكان في زمنه من خلال المنطق البشري الهادئ. لربما كان (لوي) أحمقا بما فيه الكفاية ليعتقد انه نجح في مسعاه هذا.
وهكذا بدأ (ند)يغمغم منازعا نفسه على تصديق ما جرى ويجري له:
" ما هذا كيف لكلب بري أن يتحدث معي بعد مليون سنة من التطور. علماؤنا كانوا يقولون إن سلالة البشر انحدرت وتكونت على اليابسة من سلالة الأسماك . ما هذه الكلاب البرية الذكية؟! ربما هي من سلالة كلاب خارقة ومن المستحيل المطلق أن تكون هذه المخلوقات من سلالة البشر..."
رغم أن عقل (ند) قد عاد إلى ادراك الأشياء العادية البسيطة إلا انه لَمْ يكن باستطاعته أن يستوعب تماما كل تلك الأشياء الهائلة التي حدثت له وللعالم الذي كان فيه والعالم الذي هو فيه الآن .إن حجم ما حدث من تغيير كان كبيرا على مداركه بشكل غريب . يا الهي ! مليون سنة مرّت! كيف؟....
قام (نَد) للمَرّة الأخيرة بالسيطرة على نفسه وقد شَدَّ بأصابعه على حافة حاويته الزجاجية وقال مُصرّاً على أسنانه بقسوة وهو يخاطب محدثه:
" لا أعلم عمَّ تتكلم يا هذا، لكنني أريد الخروج من هنا ! أريد العودة من حيث أتيت هل تفهم يامَن تكون ما تكون؟"
ضغط (لوي) على المزيد من الأزرار وخنّ الصندوق مخاطباً( نَد):
" لكن يا ند ،لا يمكنك العودة إلى الزمن الذي كنت فيه وليس هناك مكان افضل لك الآن من مدينة( كار- راه). أنت الإنسان الوحيد الذي بقي على سطح الأرض أما الكائنات التي تعيش في الكواكب الأُخرى فهي ليست من صنفك رغم أن اصلها من الكوكب هذا لكنّها فاقتك كثيرا في التطور. لستَ إلا مخلوقا منقرضا ولا سبيل لك غير العيش معنا فعقولنا تشبه عقلك إلى حد ما. سنعتني بك ونوفر لك متطلبات الراحة..."
لم يستمع نَد إلى بقية الكلام ،بل اكتفى بجملة:" أنت الإنسان الوحيد على سطح الأرض."
أمرٌ غريب حقاً لا يمكن لعقله أن يستوعبه. قد يكون هذا الأمر حقيقة وهو الرعب بعينه. لَمْ يكن نَد من النوع الذي يخاف من الموت أو من أي خطر عادي بمقاييس دنيا الأرض ؛ كان بإمكانه مواجهة مثل هذه الأمور بشجاعة. لكن شعوره بالوحدة  وما يحيط به من غرابة مخيفة حقا كما لو انه أُقتطِعَمن عالم ليبقى هنا غريباً في عالم آخر. قلبه يخفق بشدة وعيناه متسعتان بهلع وهو ينظر إلى ما حوله في هذه الغرفة الغريبة. كان هناك ثمة منحدر للصعود إلى الطابق الأعلى بدلا من السلالم ولقد تملكت نَد رغبة قويةبالهرب من هذا العالم الكاذب الذي لا اسم له . ليهرب ويعرف حقيقة الأمر بنفسه فقفز من وعائه الزجاجي واتجه محني الظهر نحو المنحدر الصاعد. 
كان عليه أن يقطع الطريق متكِئا على يديّه وركبتيّه لأن السُلّم الصاعد كان واطئ السقف . ثمة من قهقهات حيوانية يسمعها حوله ويشعر بملامسة الأجساد ذات الفراء لجسدِه ، وهذا ما جعله محموماً في سرعة الهروب و استطاع أن يخرج إلى السطح أخيراً .وقف هناك لاهثا في الجو النقي البارد للمساء والقمر بدرٌ كبير كثير الندوب من شِدّة قُربه، لكن بروج النجوم لم تكن واضحة. كانت مدينة القوارض تمتد واسعة متوهجة على شكل مجمعات من القباب  الكريستالية تنتشر بين أشجار غريبة الشكل. أما المنحدرات الصخرية فكانت في كل الجهات وقد تآكلت حافاتها المسننة بفعل تعرية ملايين السنين التي جرت في أعماق محيط قد جفت مياهه وإندرسولم يعد له شكل تحت ضوء القمر الشاحب غير ارض ملحية لامعة.
" هه حسنا يبدو أن الأمر حقيقة هه؟" غمغم (نَد) بنبرة صوت باهتة.
سمعَ خلفه لغطا من أصوات غريبة متحمسة كأنها نباح مكتوم له زمجرة وحشية. كانت المخلوقات القارضة وراءه حين التفت ورأى تلك العيون المتراصفة اللامعة في أعداد لا حصر لها. نعم ربما هو الآن أما منفي في كوكب آخر أو أن تضاريس الأرض نفسها قد تغيرت إلى هذا الحد الغريب.
ولما شَعَرَ بهول الفارق الزمني الذي هو فيه اعترته موجة عارمة من الحنين – دهور وعصور لا يمكن تقديرها قد فصلته الآن عن أصدقائه وعن حبيبته (بِتي) وعن كلِّ ما إعتاد عليه في عصره البعيد جدا. وراح (ند) يركض هاربا من هذه العيون اللامعة المتلصصة للقوارض، وتمنى الموت. لكن ما سر هذا الأمر؟ وما السبب الذي يدعوه ليبقى على قيد الحياة؟ سيصبح مجرد قطعة أثرية رهينة في المتحف الطبيعي كمادة دراسية في دورق زجاجي كبير. لعل السجن أو مستشفى المجانين ارحم كثيرا من أن يكون مخلوقا قيد الدراسة العلمية. لقد حاول أن يستجمع شجاعته لكن ما لذي يجعله متحمسا لهذه الفكرة؟ لا شيء طبعا. وضحك بهستيريا وهو يركض مرحباً بذلك البرد القاتل بعد أن سيطر عليه مرض الحنين إلى الماضي ولا خلاص له من هذا الجحيم ليعود إلى عالمه المفقود بعد ملايين السنين....
لحق لوي جوك واتباعه ند فينس في الحال .وجدوه فاقد الوعي على مسافة ميل من مدينة (كار – راه) فأعادوه بالطائرة بعد أن زرقوه بجرعة تعيد اليه وعيه وأُدخل في نفس المختبر السابق لكن هذه المَرّة شدوا وثاقه وربطوه بقوة على منصة واطئة  لمنعه من الهرب ثانية. استلقى يائسا إلى أن خطرت في باله فكرة آنيّة منحته بصيصَ أمل:
" هَي ! أنت يا هذا !" نادى على أحدهم.
فجاءه الجواب :
" عليك أن تستريح يا نَد فنس ." ردّ عليه لوي جوك عبر الصندوق الأسود أيضا.
لكنه احتج قائلا:
" لكن اسمع يا هذا !  أنت تعرف أكثر مما عرفناه في القرن العشرين – حسنا- كان عندنا ما يسمى فكرة السفر عبر الزمن التي قرأت عنها. ربما تستطيعون بعلمكم أن تعيدوا فكرة استخدام آلة الزمن وتعيدونني إلى الزمن الذي جئت منه !"
كان لوي جوك الصغير الحجم في مزاج سوداوي متعكر وكان بإمكانه فهم ما يقوله هذا العملاق  البائس الذي عثروا عليه ضائعا عن أبناء جنسه ماضٍسحيق و يعيش الآن في حالة انفصام عقلي ومن المحتمل انه مجنون وربما أكثر من ذلك انه مهدد بالموت من شدة مرض الحنين إلى عصره الزائل.
لوي جوك عالم شأنه شأن جميع علماء عصره بغض النظر عن نوع جنسه الذي انحدر منه فهو مثل بقية العلماء مولع بأبحاثه العلمية ويريد من هذا الإنسان القديم الذي عثر عليه في التنقيبات أن يعيش ويكون سعيدا ؛له قيمةعلمية كبيرة في الدراسات والبحوث.
لذلك أخذ لوي جوك مقترح هذا الإنسان حول فكرة السفر عبر الزمن بمحمل الجد والاهتمام . لكن فكرة السفر عبر الزمن في حد ذاتها مثل اختراق جدار منيع قد خذلت الكثير من المحاولات الذكية لعلماء أكبر بكثير من لوي نفسه. لكنه الآن مصمم على فكرة هذا المخلوق الطيب الذي استطاع بمعجزة أن يفيقه من موته واصبح حالة نادرة لمخلوق يعيش في غير زمنه البعيد . وقد اطلق عليه اسم كاليي.....
ضغط لوي على أزرار الصندوق السود مجيبا نموذجه البشري:
" نعم يا نَد فينس" هكذا ردد الصندوق الصوتي جوابه، " نعم السفر عبر الزمن ربما هو الشيء الوحيد الذي علينا فعله وهي أن نعيدك إلى الزمن الذي جئت منه. لأنني أرى انك لست نفسك هنا . رغم أن الفكرة صعبة التحقيق لكننا سنحاول . والآن عليّ أن أضعك تحت حالة من اللاشعور ...."
شَعَرَ نَد بالارتياح من هذا الرد . يعني يوجد ثمة أمل حقيقي بعد أن كانأمراً ميؤوساً . ربما سيعود إلى بلدته هاريج وربما سيرى ورشة عمله ويرى الأشجار وهي تورق في الربيع وقد يرى صديقته بِتي في منطقة هيرليقريبا هكذا استرخى نَد عندما غرزوا في ذراعه إبرة في غاية الدقة....
وحالما راح نَد في حالة من الغيبوبة عاد لوي جوك إلى عمله مَرّة أُخرى مستخدما خوذتي الدماغ للكشف عن عقل نموذجه البشري بعناية. وبعد ساعات من البحث والدراسة استعد لوضع خططه . كانت حكومة مدينة كار-راه متكونة من مجلس علماء وكان لوي من ابرز أعضائه ولهذا من السهل الحصول على الدعم الذي يريد في مشروعه العلمي.
وهكذا شرع قطيع من هذه المخلوقات رمادية الفراء بالعمل على معداتهم لعدة أيام فطاف عقل نَد فينس بالتدريج خارجا من الضبابية المحيطة به. وراح يطوف تائها في مكان ليس غريبا عليه ؛ إنها ورشة عمله وقد ظهر على سقفها شبكة تسليح البناء مطلية باللون الأحمر. كانت مساطب عمله مليئة بالأدوات ومخلفات العمل من برادة حديد ودهون مثلما هي كانت دائما. كان لديه ساحبة و باذرة زراعية تحت التصليح. وخارج الورشة كانت الشمس القديمة نفسها تشع بلونها الأصفر. وعبر الشارع يقع البيت الصغير الذي يسكن فيه بلونه البُني نفسه. وفجأة بدأ يرى صديقته بِتي تقف عند المدخل بفستانها أزرق اللون وقدد لوت شفتيها ابتسامة متعبة كما لو أنها نجحت أخيرا بالوصول اليه زحفا لتفاجئه .
" لماذا يا نَد تبدو وكأنك غارق في حلم استيقظتَ لتوك منه؟"
قالت له مبتسمة بهدوء. تحركت عضلات وجهه متألما عندما اقتربت منه، فما كان منه غير احتضانها بقوة كنوع من الامتنان . نعم، ها هي بِتي مثلما كانت دائماً.
" أعتقد أنني أحلم يا بِتي ،" همس وهو يشعر بالارتياح." لا شك أن النوم داهمني وأنا على مسطبة العمل هنا حيث رأيت كابوسا كأنني تعرضت إلى حادث سيارة في منطقة بت بنَد وأن أحداثا جسيمة مرت بي ...لكن كل هذا ليس حقيقة..."
عقل نيد فنس ما يزال في متاهة ضبابية لَمْ يستطع التخلص منها لكنه ببساطة قبلَ بما يراه من حقائق واضحة أمام عينيه. ولم يكن نَد يعرف شيئا عن تلك الإشعاعات غير المرئية التي أمرروها في ذهنه لتريحه إلى الحد الذي لا يستطيع فيه أن يطرح سؤالا أو يشك فيما يحدث ويلاحظ ما يجري ويظهر حوله من ظروف وأحداث غير معقولة مثل فراغ الشارع من السيارات والناس ما عداهما هو وصديقته بِتي. لَمْ يكن يعلم أن ورشة العمل التي رآها قد أُدخلت في ذاكرته تقليدا للأصل. ولم يكن يعرف أيضا أن بِتي  نفسها مجرد تصنيع من المعادن والمواد البلاستيكية و اللدائن. أما الأشجار التي في الخارج فهي مجرد أوهام من سلايدات الفوانيس السحرية. كل ذلك تم وضعه داخل قبة كبيرة معتمة الظلال فيها أجهزة عرض تلفزيوني مخبأةلغرض إجراء البحوث على هذا الكائن القديم الذي اطلق عليه اسم كاليي وليس لشيء آخر ؛هكذا كان حافزهم العلمي يتسم بالأنانية وليس الرحمة.
راح العالم لوي يتجول بعيدا في قاع البحر الجاف و الحزين لكي يفكر ملياًو يعتصر ذهنه ويتحدث مع نفسه متأملاً تلك العصور القديمة التي مرَّ عليها دهر طويل لا يمكن معرفة مداه. وتذكر تلك الآثار القديمة التي خلفها عصر الإنسان الخارق. فكّر لوي مع نفسه قائلا:" لقد صدّق (نَد) بأننا أعدناهإلى مكانه وزمانه ،ولا يعلم إننا وضعناه في حالة الوهم ليبقى حيا وسعيدا. ليس لدينا طريقة أُخرى غير ما فعلناه فحاجز الزمن جدار أبدي وقد أثبتت بحوثنا التاريخية لمدن الإنسان هذه الحقيقة. حتى البشر أنفسهم يوم كانوا أسيادا على هذه الأرض لَمْ يتمكنوا الإفلات من لحظة الحاضر.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي