مقالات ادبية واجتماعية وفنية
رضوان العجرودي/ شاعر تونسي
شهدت الرواية العربية تحولا كبيرا منذ ثمانينات القرن الماضي، حيث أثرت الموجة الفلسفية الوجودية التي طغت على أروبا مع ألبير كامو 1913-1960 و جان بو سارتر 1905-1980. هذه الطفرة الإبداعية التي أفرزت لنا أدبا أكثر إلتصاقا بالمذهب الواقعي التحرري و الواقعي الاجتماعي. كما مثلت موجة ترجمة أدب أمريكا اللاتينية في إضفاء الطابع السحري للرواية العربية و العالمية. هذه التحولات مازلت تجد صدى لها في عديد الروايات العربية الحديثة، التي تجاوزت منطقة المغامرة و التجريب إلى منطقة الإبداع. و لعل هذا ما كان له بالغ الأثر في كتابات هدى حدادي، و خصوصا آخر إنتاجاتها الروائية "أعيش" التي صدرت هذه السنة عن مركز الادب العربي للنشر والتوزيع. الرواية جاءت
من القطع المتوسط في 102 صفحة.
ببساطة سردها الهادئ و القصير، لم تتكلف هدى الحدادي في تعدد شخصياتها، بل جعلت شخصية واحدة تدور حولها أفلاك الرواية، وعلى لسانها و من خلال حياتها وضعتنا حدادي أمام أكثر من سؤال و أكثر من مراجعة.
رواية تعاتب الزمن
تبدأ هدى حدادي روايتها بفصل قصير عنوانه " أعيش" يشبه رسالة من مجهول مذيلة بإسم " ورد"، و قلت من مجهول لأن إسم ورد مازالت صاحبته مجهولة عن القارئ . هذه الرسالة و التي كأنها تحمل تقريرا نهائيا عن تجربة معيشية تعيد للأذهان سؤال طالما شغل بال الإنسان المعاصر : هل نكبر بمرور الوقت أم بمرور المواقف و الأحداث؟ كما أربكت حدادي مفهومي الموت و الحياة، إذ تقول "ورد" في رسالتها : "أردت أن أبقى حية حتى بعد موتي".فلا الموت يوقف الحياة ولا العيش دليل على الحياة.
تبدأ هدى حدادي سردها بشكل سلس متخفف من التكلف، ترسم لوحتها بأقل مجهود، لا يشعر القارئ بكيفية تشكله. ترسم عالم شخصايتها بوصف منساب بما يكفي من تلوين مخيلة القارئ، وخلال الفصل الثاني الذي حمل عنوان" انتظار جميل " نكتشف شخصية ورد السيدة الخمسينية التي رسمت لها حدادي عالما بسيطا و كأنها تريد أن تريحها من زمن العيش و الحياة اذ تقول هدى واصفة ورد " تميل ورد براسها إلى الخلف ملقية به على ظهر الكرسي المتأرجح و تستغرقها الأفكار و تشرد بها إلى تلك الطفلة التي تعيش بداخلها...".ورد هذه السيدة الخمسينية التي تلاعب حفيدتها، و بين أسطر الرواية تجري حياتها، هي نفسها ورد التي التي بدأت برسالة تعاتب فيها الزمن، عتاب حسرة لا عتاب لوم، إذ تعيش ورد في دوامة صور و أسئلة، صور لا تعلم أن كانت ستتخلص منها يوما كي تعيش مرتاحة، أم إنها هي الصور التي تعيش بها و من أجلها.
لتنتقل بعدها حدادي لفصل ثالث بعنوان " أعيش" و هو الذي أخذ بقية الرواية، فهي انتقلت اليه مسترسلة في سرد حكاية ورد بنت الخمس سنوات. تقنية التكثيف و الاستباق و الاسترجاع تضع بها هدى القارئ أمام جدوى التذكر المحض للتفاصيل أمام لحظة راهنة معاشة، لكنها في الان نفسه تكاشف ورد حياتها جدوى العيش خارج الأمل و الحلم. الحلم الذي يتجلى في شخصية ورد السارحة مع الأماكن و الوقت و المواقف. إذ تستوقف ورد نفسها في كل فصل من حياتها كي تلتفت خلفها لتتفحص ذكرياتها، و تعيد للأذهان حاجتنا الملحة كي نعيش لحظتنا الراهنة بما أوتينا من جهد كي نرمم ما خسرنا من جهد في فقدان من نحب.
الواقعية الاجتماعية التي تنتمي لها رواية " أعيش" أشعلت جذوتها المباشرتية و التكثيف، فهما خاصيتان كانتا رافدا لسرد هدى حدادي، كما أجرتهما على لسان ورد الشخصية الرئيسية. فهي تقدم لنا الزمن بأشكال مختلفة متعددة، مرة في شكل أحداث متتالية تسردها الكاتبة، مرة شكل حدث واحد تغمق الشخصية في تفاصيله. فكما تبني حدادي أمكنتها تبني ثيمات العيش و الفقد. فثيمة الفقد على لسان ورد، تجد لها حدادي صورة تخادع القارئ، فهي و نعني ورد تتحدث عن فقدها لأمها و أخيها ثم أبيها بحالة من الكسر و الضياع لكنها تفاجئك بمعقولية التقبل و كيف تستطيع بنت عاشت اليتم باكرا أن تحول الفقد حجر بناء في روحها و حياتها. هذا البناء ليس عبثا، بل هو بما هو حياة للراحلين في دواخلنا و وفاء لتذكر مآثرهم و العيش من أجلها. فتقول ورد عن فقد أمها في سن السادسة " أدركت أن الموت يعني الرحيل و الغياب الذي لا رجعة فيه... ما إن تصيبها نوبات الهلع من كل ما تذكره من آلام و أوجاع في هذه السن المبكرة من الطفولة حتى تلجأ لسماع القرآن..... فهذا كل ما تذكره عن والدتها." و تقول لاحقا ورد البنت ذي الخمسة عشر عاما عن وفاة أخيها" يجيء الموت مرة أخرى ليعيش في حياتي..... لكن إدراكي له ليس كالسابق " لنصل لورد المرأة و هي تفقد أباها" هذه المرة أورث موت أبيها قوة لم تعهدها من قبل ". هذه العجائبية في تحمل المصائب و الهزات، تسحب به حدادي قارئها لمناخات العيش بالآخرين لا الموت معهم. فهي إن كانت تعاتب زمنها و حياتها فهي تقول لها لقد عشت كما ينبغي لحيوات تسكن داخلي أن تعيش.
الزمن و الكتابة
نجحت هدى حدادي أن تجعل القارئ يعيش معها لحظات ولادة الفكرة و الشعور قبل كتابته. فجاء سردها خاما، مباشرا و صادما. هذه التقنية التي لا تبتعد عن أحداث شخصيتها الرئيسية " ورد ". شخصية البنت ورد التي يعيش معها القارئ طفولتها و شبابها و كهولتها. اختارت حدادي تارة ان تستعمل خط الزمن الواضح لتنتقل من فترة إلى أخرى، و طورا لجأت الكاتبة للأحداث حتى يسترسل زمن السرد. و يلاحظ أنها إذا أرادت أن تمهد لحدث درامي عنيف في حياة ورد فإنها تستعمل ترميز الزمن، فالأم ماتت في سن السابعة حين كانت تستعد ورد لدخول المدرسة. و فقدت ورد أخاها خالد بعد عامين من زواج أبيها. بيد أنها كلما سردت لنا حياة مفعمة روحيا و سعيدة أوردت للقارئ أحداثا يسترسل بها خط الزمن، فبنتي ورد كبرتا حين بدأتا التعلم من أمهما أشغال البيت و الخياطة، و تلميذات ورد المعلمة كبرن حين صرن صديقاتها بعد أن كن تلميذاتها. هذه التقنية الطريفة في اختيار زمن الرواية يكشف للقارئ أن هدى حدادي تتخلى عن الزمن الواقعي في حياة ورد كلما انطلقت في تقاسم حياتها و بذلها من أجل اسعاد الآخرين،و هي التي صدرت كتابها بعبارة " إن عشنا لأنفسنا فقط لن نستحق حلاوة الحياة" ، و هي التي دافعت عن فكرة العيش التي لا تكون إلا إما بالعيش مع الآخرين و من أجلهم أو العيش بذكراهم.
الزمن الذي تحاكمه حدادي في روايتها حمل لها خوفا تجلى في شخصية ورد، لكنه صار رويدا أكثر ألفة معها. زمن يعصف بروح ورد في أحداث متلاحقة، تجري معها حياتها بأكثر من إيقاع.
فضاء السرد
داخل روحها كما خارجها عاشت ورد. فسكوتها و عزلتها كانا مكانين بارزين في تشكيل شخصيتها.فكثيرا ما يدور الحوار الباطني لدى شخصية ورد، فهي لا تنقطع عن حياتها في المكان الا لتواصل العيش في داخلها. فالروح التي أثاثها الذكريات و الأحلام و الأمنيات كانت هروبا من فيزيائية المكان الخارجي. فاستفردت الحوارات الباطنية بقسم كبير من الرواية،حوارات بنفس صوفي خاشع بين الشك و الاطمئنان لا ينفصل عن الفضاء الطبيعي للرواية.
البحر و الساحات و الشوارع الذين كلما اختلت ورد بنفسها صاروا مكانا فيزيائيا لحوارها الداخلي اطنبت حدادي في وصف تفاصيلهم و بثت فيهم مشهدية كأنها في تفاعل مع نفسية ورد، فالبحر هائج في انكسارها و حيرتها، و الساحات و الشوارع الخالية رغم اتساعها فهي روح ورد في كل خسارة أو فقدان.
نقلت لنا هدى حدادي أيضا التطور التاريخي الذي شهدته مدينة جدة السعودية التي تعلقت بها ورد. كما نقلت بدقة هندسة البيوت و بثت فيها روحا لتفاصيل و نمط عيش المجتمع السعودي، فاهتمت بتفاصيل الألوان و الأشكال و الأثاث، كما تحدثت عن عاداته و أكلاته اليومية و المناسبتية خلال شهر رمضان و الأعياد. الرواية و إن كانت من زاوية الميكرو-سرد تنقل لنا حكاية بنت في مجتمعها لكنها تعيش حياتها مع حياة المحيطين بها، فإنها نقلت بشكل بشكل ماكرو-سرد تكشف لنا حكاية مجتمع كامل.
أعيش
تضعنا رواية " أعيش" أمام سؤال جدوى العيش. فليست كل من يحيا فهو داخل العيش الذي تراه حدادي مستمد من مدى عطائك للآخر، فلا حياة خارج العطاء و البذل. كما أن الاخر الذي يعبر حياتك مهما كان تأثيره فهو يترك بصمته داخلك. ورد التي تعيش معها طفولتها تكبر داخلنا نفسيا و روحيا، و تنصهر معها أفكارنا و تجعلنا نراجع شريط حياتنا لنقارنه مع حياتها. فالقارئ يجد نفسه منغمسا في سرد يشد انتباهه كما و أن حدادي تسحبه بخفة ليكون شخصية داخل روايتها.
بداية الرواية التي تكشف لنا مشهدا بين جدة و حفيدتها، يرسم لنا هذا التواصل في الروح و العيش بين جيلين مختلفين فيهما تتشابه الحفيدة المتسائلة مع الجدة التي تجيب بأسئلة أكثر.ثم ينطلق في سرد حياة كاملة فيها من ألم الفقد و التحمل، ما يجعل القارئ متقبلا مغادرة ورد للحياة على سريرها بهدوء لتكمل عيشها داخل القارئ.
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي