مقالات ادبية واجتماعية وفنية
عبدالله السمطي/ناقد مصري
1
تتسعُ فضاءات الشعر لكي تشهق الكلمات أكثر، في مختلف صورها وأشكالها، هذه الكلمات التي تنبثق في أساليب شعرية متعددة تصوغ بنيتها التعبيرية لتقدم للقارئ مختلف أنماط الرؤى الإبداعية وأشكالها. فلا يوجد أفق أحادي للشعر، ولا يوجد مفهوم له أسواره الصينية القانونية للتعبير الشعري.
في ظل هذا الوعي تُقدم الشاعرة ميّادة مهنَّا سليمان على ابتكار مفرداتها، وإبداع حالة شعرية تتشكل من طرز تعبيرية تتكئ على البعد الوجداني، وعلى تآزر الرؤية السينتمنتالية العاطفية مع جدليات الواقع وتفاصيله اليومية.
إنها تُمهرُ كتابتها بالجماليّ الذي يطلُّ من حواس القصيدة وليس من الحواس الإنسانية بالضرورة. ما يتطلبه الشعر من إصغاء لهواجس الروح والحب والشوق والتشوّف هو ما تعكفُ عليه الشاعرة في إبداع نصوصها، في وحدة شعرية ترى إلى الكلمات على أنها لوحات مصغّرة، وترى إلى النصوص على أنها جداريّات لغوية تتمدد إلى أقصى طاقاتها ، تتشوف إلى مطلق الحبّ كما تتبصر في مطلق الغياب.
إننا تلقاء ديوان شعري رواغ، في نصوصه وأبنيته الشعرية، فعلى الرغم من بساطة التعبيرات ، ووضوح الأداء الشعري ، بمجازاته وصوره وأخيلته، إلا أننا نشعر أن ثمة ورائيات كامنة خلف الكلمات، وثمة أبعاد عميقة رائية لا يتسنى لنا اكتناهها إلى بالإيغال في القراءة واستقصاء مفردات النصوص والإصغاء إلى نبضها الداخلي.
2-
تقسم الشاعرة ميادة مهنا سليمان ديوانها إلى ثلاثة أقسام، تستند على ما هو حسّي، حيث اصطفت دالة ( الفستان ) لتعنون بها هذه الأقسام، الفستان بما له من دلالة لونية وحسية وبما يحيل إلى النسيج وتداخلاته، كأن الفستان هنا من نسج الكلمات، وكأنه (شكل) يطرز بتصاميم كتابية معينة في كل قسم، وهذا ما يتبدى لنا عند قراءة النصوص إذ نجد أن ثمة اختلافا بين كل قسم وآخر، سواء على المستوى البنائي للنصوص أم على مستوى دلالاتها وأبعادها السيميائية.
وعلى هذا الحذو يتسنى للقارئ أن يقارب الديوان الذي يتكون من ( 46) نصًّا شعريًّا تتوزع على ثلاثة أقسام، الفستان الأول ويضم ( 16) نصًّا، والفستان الثاني (9) نصوص، والفستان الثالث (21) نصًّا، ولكل قسم سماته وسجاياه الفنية التي تتعاضد معا لتشكل الهوية الجمالية الكلية للديوان.
إن هذه النصوص تشكل منظومة جمالية تتوزع ما بين رؤية وأخرى، وما بين شكل قصير وشكل مطول، وما بين إشراقات المقاطع الكثيفة القصيرة جدا، التي تشبه فن الإبيجراما، أو ما ينتج على شكل نصوص مكثفة تمثل شعرية اللقطة، أو شعرية (الهايكو) خاصة في القسم الثاني.
إن الشاعرة تكتب ذاتها، لكن هذه الذات تنبثق من ثنايا التعبير عن الآخر. الآخر العاشق هو من يظهر ويتجلى، وهو الرؤية الدلالية الجوهرية الناظمة لدلالات الديوان ورؤاه.
3-
تضعنا الشاعرة في إهدائها الذي تصدّر به ديوانها، في قلب الدلالة الجوهرية التي تركز عليها قصائدها، والتي تمثل الوحدة المضمونية العضوية للديوان بوصفه كلا، ففي الإهداء تقول:
" إلى وجهك الجميل الذي أراه في مرايا السماء
إلى عينيكَ الساحرتين اللتين صارتا بلون الغيم
إلى روحك النقية التي أحبها الله، فاصطفاها
ليبقى لي منكَ ذكريات ووفاء وحب لن يجف نبعه
إلى روح زوجي الوفيّ: رامز سلمان سليمان".
هنا نتوقع ، حسب هذه العتبة النصية المهمة، أن تكون الكتابة وجدانية، تتشح ببعد رومانتيكي موجه للآخر، وهذا ما أبدته الشاعرة في استحضار الآخر وتوجيه الخطاب له كأنه حاضر في الكلمات وفي النصوص.
الشاعرة تفعل ذلك بلغة شعرية طيعة تحبذ الوصول إلى الداخل متجاوزة الأشياء الحسية إلى العمق الروحي الذي يتبدى في أواخر النصوص.
ويُستهلُ القسم الأول بنص بعنوان: " لبستُ فستانًا قصيرًا " وقريب من هذا العنوان ما تستهل به الشاعرة الفستان الثالث، حيث تبدأ بنص: " قصيرٌ فستانُ صبري"، هنا توكيد على دلالة التسمية، كما أشرتُ سالفا، وتوكيد على أن ثمة تجربة شعرية متماسكة، لها بنيتها المضمونية التي تتوجه إليها الشاعرة.
تتكئ الشاعرة في القسم الأول على النصوص الطويلة نوعا ما مقارنة بنصوص القسمين الآخرين، وهي في ذلك تحدد ملامح تجربتها الشعرية في هذا الديوان منذ البدء، وهو تحديد إستاطيقي جمالي، يتبدى لنا منذ الوهلة الأولى.
إن اللغة الشعرية بالديوان لغة منتقاة جمالية، فيها تركيز على الأشياء الحسية الجميلة كالعطور والزهور والطيور، والملابس الأنيقة، والأشياء الصغيرة والتفاصيل اليومية، وهي في ذلك كله لا تنسى تعميق الدلالة وروحية المشهد الذي يتجاوز الحسي إلى المعنوي، ومن هنا فإن الشاعرة تمزج – برؤية تصويرية- ما بينهما، وتقدم صورها في هذه السياقات التي تصنع حوارا بين الملموس والمحسوس، وبين الحسي والوجداني الشفيف، وبين الغنائي والحواري، بين الحضور والغياب.
4
لا تذهب ميادة سليمان بعيدا عن مدارات التجربة العاطفية، وإبراز دلالاتها في كل شيء المرئي والمسموع والمتذوق، لعبة الحواس هنا لعبة انتباهية لتشكيل الشعري من الأشياء الصغيرة وتفاصيل الحياة اليومية، وهي بذلك تصنع عالمها الشعري الحميم القريب من ذاتها الشاعرة.
كما نجد أن النصوص تتوجه إلى مخاطبة الآخر الغائب كأنه حاضر في كل وقت ، كما في نص:
" اسأل مرآتي":
لا شمس لصبحك
...
يا عبق الورد
يا طعم الشهد
يا سحر الشام.
الشاعرة تركز على هذا الحضور/ الغائب معا للآخر، موجهة له الخطاب، وصانعة قدرا من التأمل والتخيل العميقين باستدعاء الشخصية، واستدعاء اللحظات الماضوية، حقيقة أم متخيلة:
يا أعظم عشق ظللني
يا أجمل رجل
دللني
كل جرائم حبك لي
مغفورة الزلات.
أو كما نجد في نص: " من أين أتى بقميصه الأنيق" وهو نص نموذجي داخل الديوان.
وفي فضاء تعبيري آخر نجد أن الشاعرة تركز على بناء النصوص الشعرية من خلال مجموعات من المقاطع القصيرة المكثفة، وكأنها لوحات شعرية مصغرة، كل لوحة تعبر عن حالة دلالية، أو لقطة شعرية، أو مشهد شعري حيوي يلعب فيه حضور الأنا الشاعرة دورا مهما في تشكيله وتكوينه، مع توجيه الخطاب الشعر لآخر.
مثلما تعبر في هذا المشهد:
سأخيطُ من كلماتي لك
قميص عشق
لونه ياسمين قلبينا
أكمامه أشواق
أزراره حروف حب قلتها لي
وربطة عنقه
قبلة حمراء
أو حين تقول:
يظنونني أكتب شعرا لك
أنا فقط:
أطرز خفقات قلبي
على مناديل الحنين ( من نص: أعشق حزنه )
وإذا أخذنا عددا من النماذج الشعرية من الديوان، كالنماذج الآتية التي تقول فيها:
أنتَ... يا لهفة مواعيد العشق
يا وابل الفرح
يا وشوشة النارنج لياسمينة الدار
وقبلة العصفور لشعاع الشمس
أنت... يا حكايات الحنين
ومساكب الشوق المزروعة في جنائن الروح
رويدًا.. رويدًا، جلْ في أروقة ذاكرتي
فلخطوات عشقك ضجيج جميل
( من نص: سأكون الأجمل )
لا تكتئب يا رفيق الحلم الطفوليّ
سيجيء الهدهد بنبأ سعيد
سنلتقي في مملكة الفرح
وسأعلن ارتدادي
عن كل كلمة.. كل نظرة
كل خفقة كانت يوما لغير عينيك
وسأشهد أن قلبك كعبة نبضي
يطوف حوله
وآه.. كم يستطيع إليه السبيلا ( من نص: قلبك كعبة نبضي )
وفي نص ( لا تنتظر عرافة ) تقول:
في هذا الصباح
سأترك لك طبق حب
فيه قطع حنين بنكهة قبلاتي
سأترك لك: فنجان اشتياق
بهيل أحرفي
وفي نص ( أذوب بسكر صوتك ):
سألبس دفء نبضك
سأذوب بسكر صوتك
وأتلذذ بعطر رجولتك المعربش على أنفاس أنوثتي
وتقول:
يا سيدي العاقل
أنا مجنونة
نكشتُ شعر قصائدي
شققت ثياب كلماتي
هشمتُ خدود حروفي
رجمت قافية هزأت بي
وجريت وراء فكرة
عصتني بجحودْ ( من نص: أنا مجنونة)
كما تقول في نص ( أذوب بسكّر صوتكَ)
أهجر وسادة أحلامي
ألملم فوضى قلبي
وأطوي غطاء الكسل
أوبّخ منبه الكبرياء
كيف أخّر موعد الفرح؟
كما تعبر:
سنوات مرت
وأنا أطعم عصافير قلبي
من قمح الصبر
وأهرّب إليها
الماء الصالح للحب
سنوات مرت
وأنا أزركش فساتين قصائدي
بفراشات الوعد
وأزرع لها
الورد المعرّش على جدران روحي
وقولها:
سنواتٌ مرت
ومازالت الذاكرة مصابة بحمّى عشقك
ومازالت الروح تتذكّر أنها التقتكَ
عندما كنت تعبر
إلى الضفة الأخرى من الشعر
نجد في هذه النماذج تجسيدا لحكمة الزمن، بيد أنها حكمة رؤية/ رؤيا وليست حكمة تمثل، حكمة الرؤية/ الرؤيا هنا مرتبطة بالأفق الدلالي الشامل للديوان أفق الوجدان والعاطفة واستحضار الآخر، كما أن النماذج تشير إلى التشوف المستقبلي الذي يبقي على جزئيات الماضي وكلياتها لتستمر إلى أبد اللحظة، فحالة الحب لا تنقطع، حتى إنها تشكل ضفة أخرى للشعر، كأنها أصداؤه التي تتوزع على مختلف الجهات، وتستمر الأبعاد المستقبلية المتشوفة لها لتظل ركيزة داخل الذات، ولهذا فإن كل هذه التمثلات، الجزئيات، واللوحات، والمشاهد، واللغة الشعرية، والمعجم الشعري يصنع هذا البريق الرومانتيكي الذي نطالعه في ديوان ميادة مهنا سليمان.
إن الشاعرة تقفنا على رؤية شعرية لها حضورها الوجداني الكلي، وتعبر عن ذاتها الشاعرة بتعبيرات تتمثل الواقعي والمتخيل في التجربة، رابطة بين الأزمنة الثلاثة في اللغة، وأزمنة الشعر داخل النصوص، لتلقى قارئها عبر تشوف الكلمات معبرة بها عن أعمق حالاتها، وعن أناها الشاعرة بكل سهولها ومفازاتها.
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي