مقالات ادبية واجتماعية وفنية
فادي جميل سيدو
باحث | سوري
في دهاليز الزمن حيث نبحث عن المعنى في وجودنا، يراودنا السؤال: "كم من الوقت مضى حتى الآن؟" هذا السؤال البسيط يحمل في طياته عمقًا فلسفيًا يدعونا للتأمل في وجودنا ككيانات تبحث عن هويتها في عالم يتسم بالتحول الدائم. نحن نعيش في ظل تجربة مستمرة حيث تندمج الأفكار والمشاعر في حوار داخلي يعكس مرحلة البلوغ والنضج.
منذ اللحظة التي ندرك فيها أنفسنا، نجد أنفسنا غارقين في متاهة من المشاعر المتناقضة، ومع ذلك، لا يزال هناك شعور سائد بالواقع يجعلنا نتشبث بإمكانية البقاء. هذه الافتراضات تشكل أساس استكشافنا لأسئلة الوجود الكبرى، وتعزز لدينا الرغبة في فك رموز الأسرار التي تحملها الحياة.
تعيش الإنسانية تحت سقف هذا العالم، بين النور والظلام، نشاهد الضياء يتسلل من نافذة الوجود، متخللاً برفق كل ذرةٍ من وجودنا. نحن هنا، نابضة بكلمات تتصارع مع زمانها، وأثيرها همسات الماضي التي تطارد أذهاننا كما لو كانت سحابة تغرق السماء. ما الذي نسعى إليه في هذه الرحلة المتشابكة؟ الطموح إلى فهم ذاتنا كأفراد في مواجهة شاملة مع الكون الضخم.
تحول الزمن والوجود: نظرة على البُعد الفلسفي:
تحول الزمن والوجود يشكلان أحد أكثر الأبعاد الفلسفية تعقيدًا وإثارة للنقاش. يمكن أن يُنظر للزمن على أنه خط مستقيم يتقدم بلا انقطاع، متداخلاً مع الوجود الذي يُعتبر بحارًا من اللحظات المتتالية والفريدة. يتساءل الأشخاص: "كم من الوقت مضى حتى الآن؟ لا أعرف. فترة طويلة." هذه الحيرة تنبع من الشعور بالانفصال عن التدفق الطبيعي للزمن والطرق التي ترتبط بها هويتنا البشرية.
تتمحور الفلسفة حول كيفية استيعاب الإنسان لوجوده ضمن هذه اللحظات الزمنية. "وأنا؟ بلا شك أعيش، ذلك كل ما يهم." تعكس هذه العبارة الرغبة البشرية في التأكيد على معانٍ جوهرية للحياة في ظل عبور الزمن المستمر. يتساءل البعض: من أين تأتي هذه الثقة؟ في الحقيقة، يأتي الشعور بالوجود من قدرتنا على التفكير والتحليل، ومحاولة فهم معاناة متعاظمة تواجهنا عند التفكير في ماهية الزمن.
يعبر الفيلسوف عن هذا الصراع الداخلي بالقول: "أنا أتورم وأنتفخ، ماذا لو انفجرت؟" هنا، تتجلى حالة القلق التي يواجهها الفرد عند الاستسلام لتحليل الديناميكية بين الزمن والوجود. يعكس الجدل الفلسفي حول الزمن هذه المحاور المعقدة، التي تحول القناعات الفردية إلى مفاهيم أكثر عمقاً وحدةً. يعكس البعد الفلسفي وجودية السؤال نفسه ومعناه الجوهري في البحث عن الذات بينما تتقاطع اللحظات مع مرور الوقت.
الزمن بوصفه استعارة لحياتنا، يُشبّه بحركات منتظمة: "السقف يرتفع وينخفض، يرتفع وينخفض بإيقاع، مثلما كنت جنيناً". تبرز فيها دور الوعي في فهم التدفق الذي لا ينتهي والذي يسيطر على توقنا لإيجاد معنى حقيقي لرحلتنا عبر الزمن، في صراع دائم ما بين الحاضر واللامتناهي.
السقف والنافذة: استعارات لرحلة الحياة:
السقف والنافذة، تلك الاستعارات التي تتموج في رحلتنا الحياتية، تعكس الحالة الإنسانية بكل تجلياتها. السقف يعود بنا إلى اللحظة التي نسعى فيها لتحقيق الأمان والسكينة، تلك اللحظات التي نعيش فيها بين جدران تُشعرنا بالحنان والحماية. لكن هذا السقف، يرتفع وينخفض بإيقاع الحياة كما لو أنه يرتبط بوجودنا منذ كنا أجنّة تمنحنا الضجة المستمرة لتدفق مياه الرحم إحساس الوجود الأول، فكأنها مثل الحلم يتماشى مع الطبيعة الفطرية لنا، مثل السراب في الصحراء، يحمل معه الأمل والراحة الوقتية ولو كانت واهية.
من ناحية أخرى، تفتح النافذة لنا أفقاً نحو العالم الخارجي، إمكانية النظر إلى أبعد من حدود الزمان والمكان. تأخذنا النافذة إلى ما هو خارج السقف، إلى الرؤيا الحية للضوء الرصاصي الكثيف الذي يخلل الهواء بما يشبه الدوامة المثيرة. الضوء من خلال النافذة هو ما يغذي فينا الإحساس بالحرية، الشفافية، والقدرة على التخيل. لكن، المأساة تكمن في أنني لا أستطيع أن أدير رأسي لأراها مجدداً، مُقيداً ببعد وجودي. هذا التقييد يعكس الشد والجذب المستمر بين الرغبة في الأمان وبين الحاجة للمغامرة والانطلاق.
هذه الثنائية بين السقف والنافذة ترسم رؤيتنا للوجود، حيث يجسد السقف حدود الوجود الأقرب إلى الأمان بينما تفتح النافذة احتمالات الوجود الأوسع والأكثر تعقيداً. يتأرجح الإنسان بينهما، أسير اليقين واللايقين، في رحلة مستمرة نحو إيجاد معنى في الحياة، وكأن كل شيء جاهز باستثناء النفس، التي تجازف بولادة جديدة في كل يوم ومع كل تحدٍ جديد تعبره.
الفراغ والضوء: محاور بين الحياة والموت:
الفراغ والضوء يجسدان في كينونة الإنسان صراعًا أزليًا بين الحياة والموت. الفراغ، الذي يبدو بلا حدود، يُمثل تلك اللحظات بين النبضات حيث يشعر الإنسان بالانسحاب من الوجود، لحظات من التأمل العميق حيث تكون الروح معزولة، مشوشة، وغير قادرة على فهم مسار الزمن — "كم من الوقت مضى حتى الآن؟ لا أعرف. فترة طويلة."
وفي المقابل، يأتي الضوء كرمز للإمكانية والتجدد. لكنه ليس ذلك الضوء الساطع الذي يطمئن الروح برفق. بل هو ضوء رصاصي، كثيف، مخترق بقنوات صغيرة، يزعج الكيان بمساماته الحادة والتي تتحدى استقرار الفرد. في هذا المجال الوجودي، يصبح الضوء مثل دومة تتحرك ببطء، تلتف حول نفسها، كما لو أنها تروي قصص الزمن الذي يتوقف أحيانا فقط ليعبر عن لحظة حياة أو موت.
الصدمة بين الفراغ والضوء تكمن في طبيعتها المتعارضة. ففي حين أن الفراغ يمتص الوجود ويحفز الشعور باللاجدوى، يجعل الإنسان يتساءل عن ثقته في الحياة: "وأنا؟ بلا شك أعيش، ذلك كل ما يهم. من أين هذه الثقة؟"، يأتي الضوء ليذكر الفرد بأنه في استمرارية دائمة مع الواقع الملموس، مثل السراب الذي يلوح في الأفق، يحث الكائن على متابعة السعي رغم الشتات الداخلي.
رحلة الحياة تتطلب منا أن نعبر بجرأة عبر هذا التفاعل الكوني بين الفراغ والضوء؛ المساحة التي نختبر فيها وجودنا بينما تنتظرنا النهاية بصمت غير مخيف، وإنما كمقدمة لميلاد غير معلوم: "منحت، إذا جازفت في التعبير، ميلادي في الموت، هذا انطباعي." في هذا التسلسل المتموج بين الفراغ والضوء، يعيش الفرد قدرًا مُعقدًا من الحياة المتلاشية والبعث المتجدد.
الختام:
عند استعراض رحلة الوجود عبر الزمن وفهم أزمة الهوية البشرية، نجد أنفسنا غارقين في تأملات الذات والوجود. نحن، كبشر، مسافرون في رأس متاعبنا وأسئلتنا الفلسفية المستمرة التي لا تنتهي. السؤال "كم من الوقت مضى حتى الآن؟" يبدو كأنه نقطة البداية لمغامرة داخل أعماق الروح، حيث لا توجد إجابات واضحة ولكن ثمة رحلة دائمة نحو الفهم والتنوير.
الضوء الرصاصي الذي يخترق وجودنا يشبه تلك القنوات الصغيرة التي تتخلل القماش المحكم للكون، مأساة متشابكة بالترقب والتأمل. في النهاية، كل ما نواجهه -السقف الذي يرتفع وينخفض، النافذة الضائعة التي لا نراها، الهواء الذي يمتص من حولنا- ما هو إلا استعارات لوجودنا الهش، في حين نظل نحن في انتظار اللحظة التي تتحد فيها كل الأجزاء وتنسج قصة وجودنا المكتملة. رغم انسدال الستار على جزء من حكايتنا، ما يزال لدينا "فترة مبشرة"، تمنحنا بصيصًا من الأمل والمحاولة المستمرة لمعرفة من نحن بالفعل.
...........................
الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-
او تحميل تطبيق نخيل
للأندرويد على الرابط التالي
لاجهزة الايفون
او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي