التعايش عند علماء بغداد

ابراهيم بن حاتم / كاتب اماراتي

عُرفت بغداد منذ بنائها على يد الخليفة أبو جعفر المنصور عام ٧٦٢ الميلادية بالعلم والفنون، وأصبحت مركزاً للعالم وحاضرةً من حواضر الدنيا التي يشهد لها القاصي والداني على مدى قرون مضت.

قيل إن بغداد سميت بمدينة السلام تشبيهاً بالجنة، فالجنة هي دار السلام وبغداد هي مدينة السلام. مع ازدهار حركة الترجمة في بيت الحكمة أصبحت بغداد محجةً للعلماء والفلاسفة والمفكرين، يحجون إليها من سمرقند شرقاً إلى إسبانيا غرباً طلباً للعلم والمعرفة والتفاعل مع البيئة المعرفية.

امتازت بغداد بتنوع مشارب علمائها فمنهم العربي والأعجمي والمسلم وغير المسلم، فدار السلام التي اشتهر في ذروة عطائها العلماء المسلمون كالرازي وابن الهيثم وجابر بن حيان كان فيها من المسيحيين مثل يوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق وغيرهم من الذين أسهموا في ترجمة العلوم من الكتب اليونانية والرومانية والهندية واللغات الأخرى إلى العربية، وهنا شهادة للتاريخ أن أتباع الديانات الأخرى ساعدوا المسلمين في بناء حضارتهم، وبالمقابل لم ينكر المسلمون دور نظرائهم في نقل العلوم والمعارف، لقد وصف ريتشارد كوك بغداد العباسية في كتابه بغداد مدينة السلام إذ قال: " أصبحت بغداد ملتقى القانون الروماني والطب الإغريقي والفلسفة اليونانية والتصوف الهندي وحكمة فارس والعبقرية السامية المتمثلة في الدين".

كان للأدب واللغة والفقه نصيبٌ كبيرٌ من الاهتمام والرعاية في بغداد العباسية، فبرز فيها أبو حنيفة النعمان – كان واحداً من أربعة أشرفوا على بناء سور بغداد- والواقدي وأبو نواس وأبو العتاهية والكسائي والأصمعي وغيرهم، وساهم اختراع الورق مع إرادة الخليفة العباسي في تدوين أدب العرب القديم وتحسين الخط العربي من خلال التنقيط.

انقسم العلماء في بغداد إلى قسمين: قسم اهتم بالقرآن فاهتم بموضوعات من قبيل النقد الديني، وجمع الأحاديث، وعلوم الحديث، والنحو، والفقه، والبيان، والأدب، وقسمٌ آخر اهتم بالمصادر الأجنبية فكانت موضوعاتهم في الفلسفة، والحساب، والهندسة، والطب، والموسيقى، وغيرها.

إن هذا الخليط المتجانس من العلوم الحقة والعلوم الإنسانية كان سبباً لغزارة النتاج الحضاري المادي والمعنوي ببغداد، وصنع حضارة للعرب والمسلمين ننهل من معينها إلى اليوم في مجالاتٍ شتى. هذا غيض من فيض دار السلام ولا يلام فيها من هام بها.