loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

بلاغة المكان وإشراقه في رواية " منازل العطراني "

breakLine

د. حسين حمزة الجبوري/كاتب عراقي

 

كان المكان في هذه الرواية ، جزءًا أساسيا من الحدث السردي ، وهي تتمثل سيرة شخصية سياسية ،  تنتمي  إلى جماعة معارضة  ، تختلف مع السلطة ، مما تسبب في مطاردتها ،و عناصرها ، وزجهم في السجون وتعذيبهم  وقتلهم بصورة وحشية  ؛  ولهذه الجماعة اليسارية سرديتها الإيديولوجية والأدبية  ، وهي تتبنى فعاليات  قوى اجتماعية وثقافية لتسردها في تجاربها الإبداعية  ، ومنها التجربة الروائية ، فضلا عن ذلك فأن للجماعة علاقة مهمة  بالمكان ،  وقد أصبحت   "الهوامش " المكانية  سواء أكانت  في  المدن ، أم  في الأماكن القصية في القرى ، والأرياف  حاضنة لأفرادها ،  ومكانا  للجوء إليها مع كلِّ نائبة  تحلّ عليهم  ،  وكانت  الهوامش أو " هوامش الهوامش "   في القرى  القصية ،  أفضل مكان للجوء إليه  ،  ومثلت  تجربة المطارد المنتمي لهذه الجماعة  أزمة  وجودية له ، لما يشعر فيه من  خوف من الآخر ،وقلق   ومن  المحيط الاجتماعي في القرية ،  لاسيما وأن زمن  هذه الرواية كان طويلا  ،  جعل الراوي يستخدم  تقنيات زمنية مختلفة أبرزها التلخيص ، والحذف ، والاسترجاع البعيد، والقريب ، لتغطية هذه السنوات  ؛ ليسرد التجربة الاجتماعية و السياسية لشخصية محمد الخلف منذ أن كان شابا ، وإلى تقدمه في العمر و إلى الشيخوخة   ، وقد تعمقت تجربته بعد الانتماء السياسي  في مرحلة الخمسينيات والستينيات  ، وما بعدها  .  فلقد رصد الاستهلال  الروائي ،  تجربة  هذه الشخصية  منذ هروبها  من  سجن الكوت  أبان فوضى انقلاب شباط 1963 .. وكانت وجهة الخلف   صوب الغراف ، حيث بيت أخته رضية  ، و زوجها نوار الناهض ، في قرية  العطرانية  وهي قرية قصية  مهمشة  ؛  وقد ركز  الراوي  الضوء السردي ، وسلطته على هذه الشخصية ،   وانشغل في تطوراتها  ، وبيان  وجهات نظرها المختلفة / بحسب مستويات وجهات النظر أوسبنسكي /   و في   تبني  لخطابها ، وما يعتمل في ذاتها من خيبات ، وآمال  ، و تبني لوجهة نظرها للمكان أيضّا  ،   فالراوي  يلاحق سيرة محمد الخلف ، وقلقها  وتأملاتها  بعد هذا الهروب ،  وقد أخلص  لنسقه السردي هذا  طوال النص الروائي ،   ولكن  المكان في الرواية ظل شاحبا ، وفقيرا   - إلى حد كبير -  لأن وعي الشخصية   و وجهة نظرها للمكان  ، كانت محددة  في الخلاص الفردي ، والنجاة من الاعتقال ،   و من ثم كان انشغاله في عزلته ، بتجربته الوجودية  التي  تبلورت  فيها أسئلته  عن الذات ، والعالم ، وعن  تجاربه التي  عاشها  ،  حتى  لكأنّ المكان – عنده – كان ثانويا  أمام  هذه أسئلة  ،  ربما لأنه  وصل إلى مكان اللجوء  والمستقر فيه مطمئنا  - نسبيا -  أيا كان شكل المكان  ، وهندسته ، وفقره أو غناه ،  مما يعني  أن الاهتمام في  وصف هذا  المكان ، وشحوبه كان مسوغا عند الراوي .   فهو في المحصلة كان مكانا فقيرا  فلا نجد فيه تأثيثا  ، باستثناء إشارة واحدة من زوج اخته التي أعدت  "  أحسن أكواخ بيتنا ( دي لوكس ) ، أطمئن ! .... أختك فرشت أرضيته بسجّادة صوف جديدة نسجتها بيديها )   فضلا عن ذلك فأن  عدم اهتمام الراوي بوصف  المكان  يتسق مع وجهة نظر محمد الخلف النفسية ، والتعبيرية ،  لا لأنه مكان لعائلة ريفية فقيرة ، دون اثاث يذكر ،  شأن ريف العراق في زمنه  فحسب  بل لأن  ظروف الشخصية  الهاربة ،  لا تهتم   إلا في  خلاصها الفردي ، وهذا المكان المنعزل بلا زخارف ، وتوصيفات أو تأثيث هو الأنسب لهذه الشخصية القلقة ، وروحها " الخاوية " التي تجد أن ثمة أشياء كثيرة وقع في أوهامها ، وقد اثارتها عزلته في  الكوخ العاري ، لتستفز كل  شجونه وهمومه ، وخيباته ،  لهذا نجده ينقد نفسه على نحو مستمر، و بقسوة ، ولم يعد للمكان من أهمية سوى أن يبقى تحت  سقف يشعره بالأمن  ، وهي إشكالية كبيرة ، وقاسية ، بل ، وجارحة لشخصية مثقفة ناشطة في المسرح والأدب، والنشاط والسياسي والاجتماعي والعائلي ، وفراق كل هذه الأشياء بما تحتويه من عوالم مختلفة  كانت لها اثرها عليه   ... فالعزلة فرضت عليه  إلا يتحرك في البيت  إلا في الليل ،  وهي حركة قليلة  لا تلفت النظر ، خوفا من الخارج  ، وقد استغرقت عائلة اخته  بهموم هذا الهارب فتغيّر سلوكها ، لحد أن  أصواتهم في البيتو صارت هامسة ، حتى لا يسمع  أحد خبر الهارب ، مع انتشار قوات الحرس القومي في كلّ مكان ، فحين سمع ابن اخته عباس  من جارهم حامد ، أن غريبا مرَّ قريبا منهم ، قرر أن ينقل خاله الهارب  إلى مكان آخر  كما ان  الراوي كان مهتما بما يعانيه محمد الخلف من قلق ، وأسئلة ، ومخاوف مختلفة  واسترجاعات  لماضيه ، وهذا " التبئير" لوعي الشخصية   جعل المكان القفر الصغير،  المكان الأنسب  للتأمل ، وإثارة  الأسئلة ،  وقد كان الخلف  في بداية  هروبه يصرّ  على نجاعة  طريقه السياسي  الذي زاوله ، وجماعته  ،  و يصرّ أيضّا  على الاستمرار على نهجه الفكري المقاوم ، ولكنّه مع الأيام بدأ القلق ، والشك يتسرب  إلى  ذاته ، ورؤيته للعالم  ، وصولا إلى  النهاية المربكة لحياته  كلّها  ما بين الاستمرار في طريقه أو ترك هذه التجربة ، ومغادرتها ،  لهذا بدأت الثقة  تهتز في النهج الذي سلكه  ،  برؤية نقدية  تشرعن لهذا الشك " الخطايا تتطلب أثمانها يا زهرة  أنت لا ترين مجد ( النضال ) ! نساء ( المناضلين ) يرين اللعنة ، يعشنها ، يتركن لرجلهن أن يتحدثوا عن ( أمجادهم ) وحدهم ! ولابد من كبش للمحرقة "    . في هذا الحوار يشي الخلف إلى  شكه ، ونقده    ، و لاسيما في  استخدامه ،   لعلامات التعجب بقصدية واضحة  في حوار مع زهرة ،  ومن هذا  النقد  تتبين  إشكالية العمل السياسي ، ولعنة الانتماء  ، ولكنه في الوقت نفسه  لم يكن  يريد  أضعاف  ثقة ولده خالد في العمل الوطني  أو احباطه  ،  فولده خالد كان ناشطا ، ومعارضا لسلطة  الانقلاب ، مع أن خطابه كان يحمل تذمرا وشكا أيضّا  في النهج  والرؤية  ، يقول الخلف لأبنه :  " لابدّ أن تمرّ  العاصفة ، من طبع الإنسان أن لا يستسلم "  .. هذه الحوارات ، كما التداعيات ، والمنولوجات  ، و اهتمام الشخصية بذاتها ، و قلقها على  عائلتها التي تعاني  العوز في بغداد  ، كلها كانت  مسوغات الراوي في  شحوب وصف المكان ، وفقره ،  وعدم الاهتمام به ؛  وكأنَّ الأوضاع العامة ، والخاصة كلّها  تتسق  مع هذا الشحوب ، و مع  بنية الرواية ، أي أن الوطن هو الآخر كان شاحبا مع  روح الخلف  .  وهذا الشحوب للوصف رافق الأمكنة الأخرى  في بغداد التي ذكرها  الراوي ، كما في  الأماكن التي انتقلت إليها عائلة الخلف في بغداد ،لأنها كانت  أماكن  مهمشة فقيرة ، وبائسة ؛  ولم نكد نعرف عنها  شيئا غير الاخبار الذي يشير إلى دراما تجربتهم ...ومادامت هذه الراوية تسرد  " سيرة شخصية  " فأن الراوي أخلص  لهذه الثيمة الأساسية ، من خلال  الاهتمام  بوعي  الشخصية  الداخلي ، وأهمل الخوض في تفاصيل الأمكنة ، ووصفها    وبذلك تطابقت  مسوغات الراوي  مع ما كان يعيشه محمد الخلف  ؛  وهذه هي مسوغات للراوي  في   نهجه  – وقصديته الشعرية  في بناء سرده  ؛  ومن ثمّ  لم يلجأ إلى سعة التخييل ليصنع  عالما شعريا موازيا ، ليبتعد عن " السيرة " – كما نعتقد -  ليكشف لنا تجارب أخرى  مترافقة مع هذه التجربة ، ومترادفة معها لبيان تلك الفترة المظلمة على نحو أكثر سعة ؛  وهي  تجارب  ثرية متعددة الأبعاد لجماعته ، ولغيرهم  من المعارضة  ومن ثم كان وعي الخلف الداخلي ، هو أساس  السرد  ، و فيه يتأمل الاخفاقات ، والهزائم والنكبات والنوائب  في الأوضاع السياسية العامة ، والخاصة ، وفي  الانقسام الاجتماعي بين المؤيد لسلطة الانقلاب ، والمعارض لها ،  حتى في القرية ذاتها ، والخلف – أيضا -   لم  يصف الأماكن  التي عملت فيها زوجته زهرة ، ومنها مصنع النسيج  - مثلا –   و رافق ذلك  قلة ذكره   للفعاليات السياسية لجماعته  ومعارضتهم للسلطة على الرغم من النكبة الكبرى / ذكر انتفاضة الأهوار ، وكان ناقدا لها ،/   فقد قصر اهتمامه بفعاليات خالد السياسية ، وخالد شخصية كان  يمكن لها أن  تنمو ، وتتطور في بنية الرواية ،  بما انه كان  الامتداد الطبيعي  لمسيرة والده  ، مع أن الخلف  بدأ تحولا ما في رؤيته للعالم  .  و كانت  وجهة نظره  الإيديولوجية التقويمية للتجربته متطابقة  مع الراوي ، وبين الخلف ورفاقه ، فهم  جميعا يعيشون تجربة المراجعة ، والنقد بعد النكبة  ،  و تمظهرت  هذه في تبني الخلف لخطاب رفيقه  طه   وهو زميله في العمل في الرمادي  - مثلا -  " بصراحة أقول يا محمد ، أن تجربتنا سلسلة من الأخطاء المترادفة ،...  السؤال  : مَنْ المسؤول ؟ ..."  ويضيف الخلف لما قاله رفيقه قائلا   : " تكمن المشكلة يا طه ، في ان أحدا من هؤلاء لم يدرك بعد أن الزمن يتحرك ، ما الذي يجعل هذا بطلا ومن ذلك وغدا ؟ " ...ولكن بعد  كل هذه الإخفاقات والتشرد والعوز ، والمسيرة الزمنية الطويلة التي امتدت تقريبا لأكثر من أربعة عقود أو أكثر ، كان  التغيير الجديد  نهاية الستينيات طوقا لنجاته ، ولعائلته .   فقد تم انصاف محمد الخلف ، وأعادته لوظيفته  معلما ، وبدأ التغيير الاقتصادي والاجتماعي لعائلة  الخلف على نحو أفضل ، من خلال الاستقرار المكاني ، و الانتقال إلى منزل  جديد ، وهنا كان الوصف  للمكان – المنزل  على نحو اكثر إشراقا  ، كأنّ هذا المنزل ، كان " رمزا "   لإشراقة حياة محمد  الجديدة ،  و البلد  ،  و إشراقه جديدة للمستقبل  ، فثمة تطابق بين المنزل الجديد ، وحياة محمد ،  وقد أثرت هذه في تحول وجهات نظر  الخلف للعالم ، وللمصير الفردي  الذي ظل  الاهتمام به طاغيا في تحولاته الفكرية ، والوجودية في  الراوية  ، فهو شخصية ثرية في التفكير والتأمل ، و التحول ، والتغيير من حال إلى حال ، فهو " شخصية دائرية  " لا تقف عند حال واحد ، ولا على رؤية ثابتة  ، فالمنزل الجديد ،  هو إشراقة للذات ؛  وهذه هي   الظاهرة  الأهم  في تجربة حياته ، وعائلته ، وآماله التي عاش من أجلها ؛ أما الاحتلال ؛  فهو تجربة أخرى  قيد التبلور، لتنتهي مرحلة ثرية ، ولتبدأ تجربة أخرى سكنتْ فيها روح الخلف إلى الاستقرار النسبي بانتظار الآتي من الزمن .  إن هذه  الراوية  كشفت عن حقبة طويلة من المعاناة  لعائلة السياسي الهارب ، وإصرارها على الوجود ،  و أدت زوجته زهرة دورا صادقا ، وكبيرا في تمثلها لتجربة حيوية كبيرة في هذه الأمكنة الضيقة البائسة والفقيرة ، ولو لم نجد هذه المرأة الصادقة المكافحة في الرواية لقلنا أن الرواية أهملت المرأة على نحو فاجع  .
 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي