loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

جمالية البوح في مجموعة "ليتلوَ الدمع ما بي" للشاعر حازم الشمري

breakLine

 


سمير الخليل | ناقد عراقي

 

يتجسّد الخطاب الشعري في مجموعة (ليتلوَ الدمع ما بي) الصادرة عن (اتحاد الأدباء- بغداد، 2023) على شكل بوح وعذوبة في التعبير وهو يرتكز على ارتحالات في عوالم ومضامين إنسانية تتناول حب الوطن، وعشق الأمكنة والتغنّي بالقيم النبيلة ووصف الثائرين على الجور والاستبداد وعلى الفاسدين والأغراب ورثاء الطاهرين والأفذاذ والأصدقاء والإحتفاء بالعلم والإبداع. 
وانطلاقاً من طبيعة هذه الموضوعات والثيمات فإنّ الشاعر لم يُبدِ ميلاً إلى القصيدة المباشرة أو الأداء المضموني وقصدّيته، وبما يؤدّي إلى النسق التعبوي، وطغيان الفكرة والحماسة على بنية القصيدة، لكن طبيعة وتوجهات الصياغة الشعرية عند الشاعر قد استحالت إلى نسق جمالي تمركز حول بوح متعالٍ وجمالية في الأداء الشعري وعذوبة في التعبير واكتناز في المشاعر، مما جعل نصوص المجموعة تنتمي إلى ما هو جمالي وشفيف مبتعداً عن التقريريّة والانفعال العابر والتناول التقليدي والحماسي الذي يفقد فيه خصائص الأداء الجمالي وحساسية الاختيار على مستوى المفردة والصورة وسنن الصياغة الشفيفة، فضلاً عن استثمار اللّغة الشعرية وانتقاء اللّفظ الموحي والمتسق مع المعنى المراد عبر صياغة شاعريّة، وينتاب القارئ الشعور بأناقة هذا البوح الشعري المتدفق وهو يصف بعذوبة الأحداث والأمكنة والشخصيّات وظواهر الحياة.

ونلحظ الشاعر حازم الشمري متجلّياً حتى في قصائد الأسى أو الرثاء أو التأمل الحزين فلم يغادره الجمال حتى وإن تناول ظواهر القبح والمعاناة ومظاهر التناقض والفساد، وتتمركز نصوصه أساساً على الاحتفاء بالحس الوطني الإنساني ولم نجد في النصوص ما يعبّر عن نرجسيّة وتضخم الذات أو تجسيد الهم الذاتي، فكل النصوص غيريّة تتناول الوطن والأرض والتاريخ والشواهد وتصف المدن والأمكنة والفعل الإنساني والوطني وتحتفي بالمثل وتعيد التذكير بكلّ ما يمت بالصلة إلى الرفعة والسّمو والتحليق بعيداً عن المضامين المستهلكة والهموم الهامشيّة والزوايا التي لا تستحق التوقف عندها. 
ونلحظ نوعاً من التساوق والتناغم بين موجّهات  المحتوى والصياغة الفنيّة والشعرية واسلوب التعبير وفرادة النسق اللّغوي والصوّري والإيحائي، فهو مهتم بجمال الأداء وانسيابية البوح قبل الموضوعة والفكرة المهيمنة أو الإشارة التي يتمركز حولها النص. 
وتعكس نماذجة تزاوجاً بين الشعر العمودي، وشعر التفعيلة مع الإصرار على التعامل مع المفردة اللغوية المشعّة، وبراعة الإستهلال واتّساع الرؤية الشعرية والتعمّق بكل زوايا النظر من وصف وتأمّل واحتفاء بالإنسان والوطن والمضامين الرفيعة من عشق الوطن والمرأة والتغنّي بالرموز والتاريخ والقيم التي تؤسس لوجود بهي وسامق، ويقترن البوح وجمالياته بنسق شفيف من الأسى الذي يعكس تدفّق الروح الإنسانية في معظم النصوص، وهذا ما عبّرت عنه عتبة العنوان والصورة التي تضمنتها المجموعة (ليتلوَ الدمع ما بي) إذْ تتحول أنساق التعبير إلى تلاوة للأسى الشفيف وحقّق الشاعر انزياحاً دلالياً حين مازج بين التلاوة والدمع وأشار إلى تمركز الذات بوصفها المعبّر عن محمولات متعدّدة ومؤثرّة (ما بي). 
ففي نص (حبر قديم) الذي يتشابك تناصياً مع قصيدة الجواهري ليعبّر عن تمجيد الماضي وسحر التاريخ الذي يؤطّر الوطن، وهو يعبّر عن حزن وأسى لما وصل إليه الواقع من تأخّر وبؤس: 
من دجلة الخير / من أمّ البساتين 
وصرخة لليتامى والمساكين / من وسط أحزان أمٍّ
كابدت ألماً / وطفلة تشتكي بؤس الفساتين 
من عمق موال أحرار / وصولتهم
وألف أغنية من لحن تشرين / نبثّ أوجاعنا عبر انتكاستنا
من بعد صبر / على عجز الميادين. (المجموعة: 5- 6). 
نلحظ في النص هناك استثمار للتناص مع قصيدة الجواهري المعروفة في التغزل بدجلة الخير، ولكن الشاعر حازم اختار أن يقدّم الصورة الحزينة التي آل إليها الوطن بأسره وما فقده من متعة وجمال وينتقد الواقع المرّ الذي أحاط بالعراقيين بعد عز وشموخ، ولعلّ هذا النسق بكلّ مقاطيعه يتساوق مع نزعة الشاعر في كتابة نصوص تقترب من القصيدة السياسية القائمة على النقد وتعرية الواقع والكشف عن تناقضات وتراكمات شوهّت المعنى وفي كلّ ميادين الحياة، ولا ننسى أن نشير إلى أن مفردة (الفساتين) جاءت مقحمة بسبب القافية. 
ونجد قصديّة لنقد الإستبداد والتمركز والاستحواذ كجزء من هذا الواقع المتردّي في القصيدة نفسها وفي مقطع آخر: 
من بعد ما صادر الأشرار فرحتنا / وأهلكوا الحرث / بسم الله والدينِ.. 
ليعلم الكون / أنَّا لم نزل حطبا / لكلّ نارٍ / على باب السلاطين. (المجموعة: 6). 
تتجلّى في النص إشارات ذكيّة إلى نوع من الهيمنة، وإلى الذين استغلّوا الدين والقداسة الزائفة لتمرير وتسويغ الهيمنة والانفراد واستشراء الروح الغنائمية، وليس غريباً أن يلجأ إلى الصورة الضديّة وإلى الأنموذج الأبهى متجسّداً بشخصيّة وقدسية الإمام علي (() بوصفه الحاكم الذي قدّم صورة مثالية ومعطاءة لكلّ أشكال السلوك المتوازن والحكمة المتعالية والعدالة الإنسانية والقيمية وتحولّت هذه الشخصيّة الساطعة إلى أنموذج ورمز تعاطى معه الشاعر في نص موسوم بـ(عليك سلام الله): 
بعاطفة ثكلى / وقلبٍ ملّوّعِ
وبوح توارى خلف نوح وأدمع / وحزن بحجم الكون / وسط انتكاسة/ ووسط كوانين نمت بين أضلعي / اتيتك والدنيا تمادت بقبحها / وضجّت بعدوان من البين مفزع / وفاضت بألوانٍ من القهر والأذى / ولاحت بنكران / ووجهٍ مروّعِ / وأنت بلا جسد تعاليت كاشفا / نوايا مريبٍ / كاذب متصنّعِ / اباطيل محتال سعى في خرابنا / وما زال قرباً من سجاياك يدّعي / فيا سيدي / هب لي من الأمر ما به / أصدّ بنفسي عن ضلال ومطمع... (المجموعة: 9- 11). 
ونستدل على جزالة وعمق هذا النص الذي صاغه الشاعر على شكل مواجعة وشكوى إلى سيد المواقف والبذل والعدالة، وينكر زلفى الطامعين والنفعيين ممّن يدّعون صلة بهذا الأنموذج الساطع، ومن خلال هذا النص يتطرّق إلى صور الفساد والخراب والأسى الذي يزحف ويشوّه كل مفاصل الحياة. 
نلحظ أنّ هناك جمالية في استخدام وتوظيف الجناس بين مفردتي (بوح) و (نوح) كما زخرت القصيدة بكثير من التشبيهات والإستعارات عبر نسق لغوي عميق جميل الى انتقاء المفردات التي شاعت في شعر الشطرين وهي تبعث الشعور بجلال الموقف وجمالية البوح.

ويكرّس الشاعر (حازم) في نص (للماء) صوراً يصف فيها ثوار وفتيان تشرين الذين هبّوا لتوكيد قيم البسالة والرفض والتحدّي ويتحوّل الماء إلى رمزية دالّة للنماء والإنطلاق والنقاء وديمومة الحياة: 
للماء للآفاق / للأشجار 
ولسمرة تكتظ بالسمّار
ولنخوةٍ عربيةٍ / جذواتها
من صولة الفالات / والمكوارِ
من ساحة التحرير من شبّانها 
ومجسّر الزيتون / في ذي قار
من صرخة / للكوت وسط عنائها
وبسالة للطين والأهوارِ.. 
وقداسة النجف الشريف / وما جرى 
في كربلاء الطفِّ / والأحرارِ
من كل أحياء السماوة / من لظى
ما كابدت / من شقوةٍ ومرارٍ (المجموعة: 20- 21). 
ويُعنى الشاعر في خلق الصور والإشارات، والإحالات، وهو يؤشّر دور الأمكنة وتعدّد ساحات المواجهة وينطلق من ساحة التحرير ثمّ إلى (ذي قار) وجسر الزيتون وإلى الكوت وإلى النجف، فالساحة واحدة لصوت واحد رافض ومتصّدٍ. 
ونستدل على إشارات للتاريخ وإلى رمزية هذه الصولات بالإشارة إلى (الفالة) و (المكوار) وإلى نضالات ثورة العشرين للإيحاء بأنّ انتفاضة تشرين تنتمي إلى ثورة العشرين على الرغم من تبدّل الأزمان والأمكنة ونجد اشارات للربط بين تفتّح أكمام هذه الوقفة وبين صور النماء والتدفّق في الطبيعة وكأنّ هؤلاء الأحرار يترجمون قانون البقاء وجدل الطبيعة لتكون الساحات زاهية بالجمال والقوّة والسطوع، وفي النصّ ذكر لكثير من الأمكنة، وهي اشارة إلى وحدة الوطن وطبيعة الفرحة الوطنية الشاملة فأمر التصدّي لم يكن مقتصراً على ساحة التحرير وميدان واحد فحسب، والمعنى المراد يعبّر عن أنّ المحنة هي التي توحّد الشعوب وتجعل الأحرار متوحدّين ومتضامنين من أجل هدف أبهى وأسمى. 
ولم يكن نص الشاعر الذي خص به رثاء (مظفر النواب) بعيداً عن هذه التوّجهات الإنسانية والوطنية وهو يحفر في ذاكرة الوطن والتغنّي بنماذجه المتقدّمة وبرموز توحي بتناسل المحنة وشيوع الخراب الذي يتكرر في كلّ مرة ويبدأ النص ليس بصيغة الرثاء التقليدي وإثارة الأحزان والأسى بل يبدأ بحقيقة هزيمة الأشرار والمزيّفين والمستبدّين إذْ يقول في نص (لمظفر النواب في أربعينيته): 
لم يُترك الأوغاد / دون حساب 
من بعد سيل هزائم وخراب / من بعد ما ذبلت ورود ربيعنا
واكتظّت الأرجاء بالأغراب / من بعد تشرين التي صاغت لنا / صبحاً بألف حقيقة وجواب.. (المجموعة: 27).

ثم يتطرق إلى استعارة بعض شخصيّات واشارات لقصائد مظفر وفق اشتغال تناصَّي لتعميق المعنى المراد واستثمار اجواء النصوص المظفّرية التي تلتقي مع فكرة التصدّي والنهوض ضد الظلم والقبح والخراب: 
ما ثورة / إلاّ بصدقِ عزيمة
وقصيدة لمظفر النواب 
ومروءةٍ / لصويحب الـ(ما فرّطت)
جفّه بـ(أرض) وبـ(مي) ولا بتراب 
نستل من / ليل البنفسج صبرنا / ونكاون الوعد ووعد جذّابي 
ونكول للفاشل يزي / مو كافي ضاعلنا وطن / وأيّام المزبّن كضن 
واصوابي هوّ اصوابي.. (المجموعة: 28- 29). 
ونستدل على استخدام الشاعر للمفردات العاميّة والشعبيّة تساوقاً مع صدق التناص والتنافذ والتجسيد لأجواء وطقوس (مظفر) في نصوصه الإيقونية المعروفة التي أصبحت مرجعاً إشارياً استثمره الشاعر للتعبير عن فكرة الرفض والمواجهة وإزاحة الزيف وإدانة الإختلال والخراب.

ويتوّج الشاعر هواجس عشقه وتعلّقه بالمكان وبالوطن وبالقيم الرفيعة في نص (وطن من أسى) إذْ يتجلّى البوح والأسى الشفيف في تعميق الشعور الذي يهيمن على ذات الشاعر وتطلّعه إلى وطن ينفض عنه الغبار والأحزان ويتجلّى ضوءاً وحكمة واقتداراً، وتوافر واحتشاد الأسى يؤشر احساساً سايكولوجياً يعبّر عن عمق التعلّق وتدفّق الأماني والتحريض على سطوع الصورة وبهاء المشهد الذي يتمنّاه ويتوق اليه الشاعر وهو يخاطب الوطن بكلّ بهائه وجماله وتاريخه وأمجاده ويبدأ النص بتعالق سايكولوجي وتأمل واستذكار دال بقوله: 
تأملتُ / في حال العراق وشعبه 
وفي حال من أفنى حياة بحبه / وفي حال من ضحى 
ومن عاش صابراً / ومصطبرا كيما يظل بقربه
فابصرتُ / والليل الطويل يقودني / إلى وطن جفّت تجاويف قلبه.. 
إلى شرق طغيان / وغرب انتكاسة / وأحزاب شر قد تمادت بنسبه
إلى مدن ثكلى / تلاقت بحزنها  
وصبح تخلى عن ذويه وصحبه.. (المجموعة: 55- 56). 
يستغرق الشاعر في وصف حال الوطن بإحساس مكتظ بالأسى وينتقل من صورة إلى أخرى وهو يرتكز على بوح ومناجاة متدفّقة وليس مجرّد رثاء يعبّر عن الحزن العابر، إنه سؤال وجودي وتأمّلي يخفي تحريضاً على التصدّي واحتضان قدسيّة وجمال هذه الأرض التي تتجسّد فيها قيم السماء والنبل والاعتداء، وينصرف الشاعر إلى الأحزان والإنتكاسات والمدن الثكلى، وهو يدين كلّ الأشرار ويشير ضمناً إلى الواقع السياسي الملتبس وسلوك الأحزاب التي تنهش بجسد الوطن وتنهب كلّ خير وأمان وحلم.

مجموعة (ليتلوَ الدمع ما بي) تجربة ثريّة في تقديم نصوص تحتفي بالجمال وتمجّد السطوع وتنتمي إلى الإنسان والوطن وتحرّض على السطوع والتدفق وتتغنّى بالأمكنة والمواقف العظيمة وتمجّد كل فعل وقيمة إنسانية وجمالية، وظلّت النصوص تعبّر عن جمالية البوح المؤطّر بالتأمّل والأسى الشفيف.
 

 

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي