loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

رقصة الدرويش الأخير، دراسة في المجموعة الشعرية "تسابيح الوجع" للشاعر حسين السياب

breakLine
2024-04-14

 

 

هدى كريد |ناقدة تونسية



خارج أسوار هذا الوطن الذي يحتضن الموت، لا طاقة لي للعيش، أو الكتابة، أو الحبّ (حسين السياب)

صوت شعريّ آت بثبات من مدينة السلّام، يرفّ حياله حمام يبذّر عطر آل السّياب دون صلة قرابة الاّ الوجع، قدر العراق منذ عصور. قعقعة سنابك الحروف، وملحمة العشق والغضب. تجدّد أوراقها في أتون حرب، تعكّر منابع الصّفاء وتخلق حكاية عراقيّة مضرّجة بالدّماء.

أناشيد الفرح مؤجلة
أناشيد الحزن تسود

بغداد الطاهرة التي يتوضّأ زائرها بالمحبّة والجمال، كما نتوضّا في محراب حرفها المقدّس داخل شعر حسين السياب العاشق لها، مدينة تيه ودلال وأدب وصمود، ورحم ساخن للمحنة. كم حدثّني عنها بوله سرى فيه حتّى أعداني.
كلّ النّوافذ عنده مشرعة على القلب مُذ سنّ مواقيت الحبّ في مجموعته الشّعريّة الأولى. غزّال بدرجة الصّدق وغلواء التّطرّف المشروع عند العشّاق. لم يوال إلّا الأنثنيين المرأة وبغداد. يعفّر وجهه بتراب الوطن مثل صلاة يقيمها بين النّهدين مكبّرا داخل الثّغر، صلاة شكر للّه الذي يبتسم مرتين مرة للأرض وأخرى الحبيبة، ويقيم في عينيها مادّا هباته من يديها  إلى المساكين.
تلك هي أقانيم الثّالوث المقدّس في سفر القصائد.
يطوف في قبلة الوطن مستقرّ الأوجاع والحرمان، حيث لا إثبات للهويّة والحبّ سوى بالموت المنساب بنعومة أفعى بين ثنايا الحياة اليوميّة، إذ يقبل العراقيّ الموت ويهادنه، يتهيّأ له عريس قبر، يرجمه فيهلّل له ويكسر شوكته فيلهج بحمده يحبّه قدر حبّه له. يصعد إلى مشنقته باسما، ويلفّ الحبل على العنق منتظرا ببساطة موعد التّنفيذ.
يقول في نبرة وجع ساخر:

وأنت تمارس حياتك
اليوميّة
عليك أن تكون يقظا
من كاتم الصّوت
أو عبوة لاصقة تثبت
في مؤخرة سيّارتك
لتحوّلك إلى أشلاء متناثرة
لتمنح بعدها لقب
الشّهيد السّعيد

يصعب أن تثبت عراقيّتك دون أن تغتال أوتعتقل. ذاك هو العرس العراقيّ، قدّ الشّاعر قميص القصيد من قبل ومن دبر وقطّع يديه لتكون حروفه مواكب أشواق وأوجاع، اختراقا للسّلام واحتراقا في أتون الاستسلام، أو عزما على المضيّ قدما ذبيحا، نصف يهتف باسمها ونصف يرقص طربا لها. صوته ترنيمة ناي خرس داخل مراثي الحياة الحزينة، حيث تستعيد قافلة سميّه أمجادها، ضياع يعتور  كيانا جمعيّا. فتكون كتابته بالجراحات، تلتقط تغريبة العراقي فينحصر الحرف بين وجع أكبر من جغرافيّة المآسي، ودمع فاض عن مساحة الأجفان. الفيء جمر، ملاذ مستجير من الرّمضاء بالنّار، يستوي عنده الموت بالحياة لتولد سمفونيّة موت صال تيها وعربد. صيغ جموع هي حشود الموتى والمودّعين والنّائحات والدّروايش، وشاعرنا الهاذي بأكثر من هويّة والمختبر للموت أكثر من مرّة، لأنّ الكفن أوساع بغداد. يسرح في ايماءات إلى صور يتلاقفها الحلك والضّياء بعيدا. هناك السّماء وإن عزّ منالها والله والملائكة.
العالم العلوي بسنخه الصّافي، وحين يهندس الشّاعر إيقاع النّثيرة بصريّا ينحسر المداد لحظة المعراج، ويلفع سواده ما يرسم المحنة الطّاحنة. فما سما كلمة واحدة مثلا:

نائحات على وطن
يبكيه اللّه
وترثيه الملائكة

وأحيانا يكون قانون المدّ والجزر وفق أهواء النّفس، واندفاعاتها والرؤيا ومقتضياتها. يشبه نفسه وان أنكر ويشدّ خيوط النّور في عالم الدّيجور، تنساب كلماته إلينا بلا جواز سفر، عميقة في بساطة، تشقّ طرائقها تفريدا دون تعقيد
هو الواقع وهشاشة الإنسان ورهان الوضوح في البيان. لا يتسرب إلى اللّغة موروث يتكلّفه، إذ تتلوّن بطابعها الذّاتي، وتكتنفها رموزها الخاصّة، وداخل التّسريد يوجد المعنى والضّديد. قد ينزوي في قوقعة الذّات تعاليا أو قرفا أو فرقا، وقد يحترق في شقوق المكان الموبوءة، جاعلا من شعره حبلا سريّا بين أقطار الأوجاع. يستفيق ملء المعاناة من بغداد إلى...
ما رغب في عدّه دون أن يحصيه وسط كمّ هائل من الأشلاء في المرثاة الحزينة، وتبقى بغداد الآن والأمس والهنا والهناك.  
فمن لم يؤمن بالعراق الأوحد مات كافرا...

أجمل حروف اللّغة هي كلمات العشّاق، وما دون ذلك ثرثرة ولغو لا معنى لها..

طريق الحبّ، مجاهدة، تصوّف، سفر دائب إلى اللّا مكان، حركة مفرغة من الزّمان توّاقة إلى المطلق، ولا أروع منه مقصلة لا تفلت أعناقها بغير معجزة. أقام صلاة شكر لله اعترافا بجميل الحبّ. حبيبة كلّما رآها ذهل عمّا عداها. بها، بأسمائها ينسى ولو إلى حين محارق الوطن. وبالجسد ينسى الجغرافيّة المنكوبة في أرض اليباب. فيكوّر العالم قدر استدارة نهد، ويعقد اللّقاء في مفترق الحاجبين. تلك الحبيبة أوساع الخصوبة، تجعل من شعره جنونا لذيذا وتمرّدا وحركة انقلابيّة تمارسها مجنونة تدسّ في قلمه كلمات الحبّ والغزل وتكتبه كما تريد..
تكثر في رحابها التّرنّمات الرومانسيّة الحالمة. يلهج لسانه بآلائها على ضفاف القمر حيث النّجوم تقرئ العاشق السّلام. بغير حدود الأرض، كتب على سحابة حيّ على الحبّ، فانشرحت أسارير السّماء. لئن حمله حبّ بغداد إلى المحارق فإنّ حبّها يقيه عائلة الحريق. خطّ الوطن التزام، أمّا مسار الحبيبة فانفلات، دروب الظّفر عبر بوّابات الاستحالة.

أيتها المرأة
الياسمين ينمو فوق شفتيك
أين أجدك في هذا البلد
المظلم حدّ الموت.

ومادام طريق النّسيان اتّقادا للذّاكرة على الدّوام كان السّالك إليها..

إذن لا طريق للنّسيان
في هذه الحياة
المتجسّدة بهيئة امرأة
ترتدي جلباب الشّعر، وتقوم بتنقيط حروف القصيدة بدم العاشق الولهان.

صيّره عشقها وليّا من أولياء اللّه. فكان الدّرب قناديل مضيئة. يقتات الشّوق من روحه، يذوب كشمعة حين تشعله وتمضي في سلام ولا شكّ هي روح فينس وشعلة من قبس ابولون تمنحه ما به الشّعر يكون. بل هي الحياة تمشي على قدمين تختزن سرّ الوجود، تناقضاته وخاصّة وجهه البهيج.

في اللّيلة الثّانية
كنت أتنفّسك
عن بعد، وفي الصّباح
كان قلبي يلتهم الطّريق
إليكِ..
مسرعا يحثّ الخطى
يبحث عن جنّة سكنت
راحة يديك..

وكلّما تكثّف حضورها تعالت الصّور الشّعرية على أنظمة المعقوليّة بأكثر من انزياح يشقّ طريق التّفريد.
وبعمق الصّورة المنفلته عن غبار الاستعمال البلاغي تكون الحبيبة في تجلّيات، الأمّ، الأرض،

أحببتكِ
بقلب أمٍ 
وعقل طفلٍ
وروح أبٍ
ودم شهيد

لغة الغزّال واحدة إذا ما خاطب بغداد أو الحبيبة، يسقط الحدّ الرّهيف متيّم بهما مذ ولدته أمّه إلى يوم يبعثون.

كلّ نساء الأرض حياة إلّا أنتِ قصيدة عشق

''بغداد''
تتوحّد ببغداد حينا، وتتمحّض لدلالتها الحقيقيّة حينا آخر، أنثى القصيد ما بين واقع ورمز. ربّما تكون مرآة الذّات أو ظلّ اللّه على الأرض، اصطفاها للسّموّ وقداسة الرّسالة.


كلّ شيء سوف
ينتهي
إلى لا شيء
حتّى هذا اللاّشيء
سينتهي...

رغم أنّ الشّاعر لم يلجأ إلى توظيف أسطوريّ صريح، يبتني عوالم الصّورة الشّعرية بالإيحاء، سيزيف يلقي بصخرته إلى اليوم ودائرة العبث المفرغة تضيّق علينا الخناق أكثر فأكثر. يذكرّنا في نفس وجودي بأنّنا الهباء والجبن والخلاء، المنتهون إلى الغياب. أفليس الموت أعدل ما توزّع بين البشر؟
يتدرّج الفشل المحتوم منهم، إليه، إلينا. من بغداد ينطلق السّمّ الذي حقن به الشّاعر شرايين الوجود بأسره. صحراء مقفرة موغلة في الموت!

ها هنا العتمة، والصّمت
الأبديّ
حيث لا أحزان
ولا أفراح

شاعرنا مسيح جديد مخلّص البشريّة من آلامها، يرسم آمالها بعزم مجالد شرس وإن بقبق الدّم المهدور. يريد أن يسير عكس اتّجاه الحزن ويعيد ترتيب أوراقه  المربكة

الفرح مؤجّل
الحزن معتّق
وما بينهما انتظار، انكسار
وموت صغير
وأمل 
يكبر كلّما كبر الموت
ودارت عقارب
الحبّ
عكس اتّجاه  
الحياة..

يشتعل الشّاعر بكلّ الحرور وتتصاعد الزّفرات، يتقيّأ العالم ويتأمّل في خوره وخوائه الرّوحي، وإفلاس الأشواق أن تحرّك داخلنا الانسان، فالنّوائب تنهش العالم، ويد الشّيطان تحكم  قبضتها على كلّ شيء.

وأنا أكتب الشّعر
تشهق حروف اسمها
تتمرّد القصيدة
وتعلن ثورة
وعصيانا..

بمداد التّمرّد يكتب القصيدة الهاربة مع الرّيح. الشّعر عنده حركة انقلابيّة أو لا يكون. وبصمة نزار تطبع الثّورة المجنونة وكثيرا من ترانيم الغزل.
وكانت القصائد طوالا أو قصارا، وقد تختزل في جملة شعريّة
ولا أدلّ على ذلك من قوله:
لا طاقة لي لأرسم وجه حبيبتي على جدار الذّكريات المليء بالنّسيان..
وتطالعنا بعض حبّات الهايكو تكثيفا  

قناديل مضيئة
لحظة تأمّل
الشّاعرة
درب حب

منفى بعيد
لا وطن في الأفق
هي روحي
كلّ مساء

تحت أيّ مسمّى يكون الشّعر لذيذا. لذّة خاطفة في  الجمل
ما دمت عاشقا إذا أنا وليّ من أولياء اللّه.
ويجتاح دفق الكلمات الورق عند الغضب وفي لحظة الانعتاق الرّومانسي المشبوبة. سورة الغضب حمم بركانيّة ترجم مواثيق الخذلان وما أكثرها في تاريخ البلد الدّامي وتجرّعنا غصصا لا ينتهين. أمّا الأخيلة والأحلام وكرنفال الألوان في الصّور فتحدث الدّهشة وعذوبة الإيحاء وغلمة الصّور لذّات أفانينا. فالخطاب الشّعري جماع الالتزام والجمال. وربّما ينزع لبوس الشّعر ليعرّي الواقع مباشرة. كان الجميع يبحث عن وطن أضاعوه في متاهات
السياسة. هكذا تضرب المفارقات في النّص/ الوجود كينونة متعالقة مع الحياة بكلّ تناقضاتها منسابة في روح اللّغة المتماهية مع صاحبها وإن تأثّرت بمفردات شعريّة غيريّة. فلا إمكان لشعر بلا ذاكرة. غير أنّها لغة الشّاعر المتّصلة بوجدانه، يلوذ بها من تغريبة الحقيقة فيشقى ويطوّح بنا معه في أقاصي الذّات وما ترسّب فيها من الوجع العراقي والإنساني، أو يحملنا إلى مراتع عشقه الخصيب وتهويماته الحالمة منحصرا في محراب الجسد وفي فلسفته.
ذاك شعر السياب متناقضات بين اللّذة والألم والوجود والعدم، شعر بدرجة فلسفة، وانبتات لا يحول دون تجذّر وأهازيح حياة تلعلع داخل مدائن الحزن، قطبيّة تمنح الشّعر ما به يكون.
 

 

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي