loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

زنبقة بيضاء على قميص يوسف

breakLine
2022-01-17

 

_____________________________________________________________________

ليس غريبًا، بل من الطبيعي أن نجد _مثلا_ تعالق حكاية شعبية عراقية او عربية او منتجة في فضاء ثقافي مسلم مع النص القرآني، فهذا النص دفع_ دائما_ وبمزاجه الذي ينطوي على تبجيل وتعظيم، الى الاشتغال على النصوص بكل اجناسها وعلاماتها، الشفاهية منها بالطبع، فآثار النص القرآني انعكست على النشاط الفني والمعرفي والسردي والشعري، من حيث التناصات والمعالجة والدلالات المتشابكة والأبعاد المتنوعة، لكن موضع الغرابة في هذه المقاربة هو تسلل قصة يوسف القرآنية الى حكاية شعبية من تشيلي)، حكاية طويلة متشعبة وردت في كتاب ترجمة احمد عبد اللطيف عن الاسبانية، انطولوجيا عن الحكايات والاساطير لشعب تشيلي، مجموعة سرديات من الأدب الشعبي الذي انتجه_ على وجه التحديد_  سكان قرى خلف المحيط، تجمعات سكانية، بعيدة حتى عن المدن الحديثة في تشيلي نفسها، فضاء شبه معزول، وعر  طوبغرافيا، وهو سبب يمتع  التواصل، ويصعب فيها تحرك المنجز الثقافي بسهولة لكي يصل الى الآخر، خاصة عندما يكون الامر متعلقا بمبنى حكائي يجيء من وراء المحيط واقصد به النص القرآني، لكي يشتبك مع حكاية  شعبية  محلية.

والمقاربات النصية تجعلنا اكثر فهما لطبيعة ماهو مهضوم في نص بعينه، أو أنها تقودنا الى الكيفية التي تم بها امتصاص أو تشرّب هذا النص أو تحوله، بل و تساعدنا على تحديد عدد الخراف من خلال تتبع الأثر حتى الوصول لصورة الأسد، وهي تمنح النص المستقبِل_ الجديد_ ضربا من الحماسة والحماية والثقة، شيء يشبه جدارا يُستند عليه، ونسبا يفتخر به، التناص اكتشاف النص لذاته من خلال امتداده التاريخي. إنها وسيلة للبحث عن الطرق التي سلكها نص ما ( قادم من منطقة جعرافية اوتاريخية ) في رحلته للوصول الى نص آخر( مستقبِل)، ثم فهم الآلية التي ذاب فيها متحاوزا او ممتزجا في سياق سردي او معرفي اوفني، بعيد او مجاور. المقاربات فيها اكتشاف للشعور بالفخر داخل النص، امتصاص لوحة فنية للاسطورة، او استدعاء بيت شعر في قصة قصيرة، او تفكيك نص فلسفي واعادة انتاجه في مادة بصرية.

وفي هذه المادة المختزلة، ومن اجل القاء الضوء على طبيعة حكايتنا_ زهرات الزنبق الابيض _ وعلاقتها بقميص يوسف القرآني، سوف أختصر النص ( المستقبِل) متشعب التفاصيل، بأقل قدر ممكن من الاسطر، يتخلل هذا الايجاز اشارات تقابلية مع القصة القرأنية، النص القادم من منطقة أخرى، بعيدة( ثقافيا وجعرافيا) عن الموطن الذي نشأت فيه الحكاية.

فالملك في الحكاية اللاتينية يصاب بالعمى، وهو الأمر الذي حصل ليعقوب في القص القرآني لكن بحبكة مختلفة قليلا، إذ لم تخبرنا القصة عن سبب هذا العمى، لكنه من الواضح أنه ذريعة لدفع الحكاية كي تتوغل في سياق دلالي سوف يظهر ببطء للقارئ معلنا عن المقاصد من هذه الاستهلال السردي، كما لو أن القصة بدأت باستهلال وجدته اسرع في تحريك الحدث.

يشار على الملك من قبل مساعديه بالعلاج، زهرة زنبق بيضاء هي الكفيلة بإعادة بصره اليه، وهي هنا المقابل لقميص يوسف في القص القرآني، والذي أعاد ليعقوب بصره. يقول الملك إنه سيمنح التاج لمن يجلب الزهرة، وهي الاشارة للنبوة في القص، إذ يسجد في رؤيا يوسف اثنا عشر كوكبا  والشمس والقمر له، رمز السلطة والقوة القادمة من منطقة النبوة، وكان لابد للحكاية ان تسير في بعض جوانبها في طريق تتصف بالمأساة، ممزوجة بالحكمة.

يذهب أولادة الثلاث للبحث عن الزهرة التي ليس لها وجود في اراضي المملكة ولا في اي مكان آخر، ولا سمع بها احد، إذ ان تحقق الرؤيا في الحكايتين يحتاج الى عنصر( دواء) وهما الزنبقة والقميص الموجودان في مكان بعيد. الملك ينتظر جلبها، وهذا الانتظار سيطول بالطبع مثلما انتظر يعقوب القميص سنوات طويلة، يتفرق الأبناء كل في طريق، ويتفقان على موعد بعد عام في  نقطة ينطلقان منها  للعودة الى القصر، يفشل اثنان لعدم اخلاصهما، وايضا لغيرتهما من الابن الاصغر، ويحصل اخوهم على الزهرة بعد مغامرات وجهد واخلاص ومثابرة بل ومغامرة، مستفيدا من الحلول السحرية التي قدمتها الحكاية لدفع الحدث كنوع من التواطؤ مع البطل، وهي خوارق لست بصدد سردها هنا، لكنها تتداخل مع المشاق والمتاعب النفسية والجسدية نفسها التي حصلت ليوسف، الاتهام ثم السجن ثم البراءة، قبل ان يصبح مستشارا للملك في  مصر، وقبل ان يبعث بقميصه دليل حياته وايضا دليل نبوته( الرؤيا التي قصها على ابيه) و التي تؤكد ارتفاع شأنه بين أخوته، وهو مصدر الغيرة، بل مصدر الجريمة التي حصلت له، والتي ستحصل لابن الملك فيما بعد..

الابن الاصغر للملك، الباحث عن الزهرة يدخل من باب داخل شجرة حور قديمة، فيجد بنت جميلة نائمة، الى جوارها طاولة عليها قنينة نبيذ وخبز وسيف، وهذه الاشارات كلها دينية، تتعلق بالمسيح وبالقديسين بينما السيف هو رمز القوة التي حصل عليها يوسف نفسه بعد تفسيره رؤيا  الملك، واقتراحاته في معالجة ازمة غذاء ستحصل بعد سنوات، الاحداث التي اعقبت البراءة من المؤامرة التي دبرتها امرأة العزيز، والتي انتهت بتعيينه وزيرا.

يقوم الابن الاصغر قبل أن يأخذ السيف والنبيذ والخبز بتقبيل البنت وهي نائمة.  يخرج بالزهرات الثلاثة، بينهن الزهرة البيضاء( القميص)، لكن الحكاية لا تنتهي عند هذا الحد، فالبنت تحبل من قبلة هذا  الطارئ الذي مر عليها وهي نائمة، حلمها، كما كان يوسف حلم زليحة، يمرعام وتلد  البنت ولدا يكبر تحت رعاية امه، وهنا تدخل الحكاية في انحراف لكنه ليس بعيدا عن قصة يوسف، فالصبي هنا قريب من فكرة الحياة الثانية ليوسف بعد القائه في البئر. إذ ان الابن الاصغر، وفي  طريق العودة للقصر، يبيت ثلاثة ليالي قبل الوصول لنقطة الاتفاق مع اخويه، يمنح النبيذ لصاحب خان، ويمنح الخبز في الللية الثانية لصاحب خان اخر، ويمنح السيف في الليلة الثالثة لرجل، لكنه يشترط على الجميع ان هذه الاشياء هي امانة حتى يجيء صاحبها ويستردها، ثم يلتقي  مع اخوته في المنطقة التي اتفقوا عليها، كما لو أن الحكاية تريد ان تبقينا صبورين، تعدنا بالكثير من المفاجآت من خلال هذه الإشارة.
والنبوءات المخفية في قلب الابن الاصغر في هذه الحكاية، والتي لم يعلن عنها السارد، تقارب النبوءات التي في القص القرآني والمتعلقة بمستقبل يوسف، صحيح ان الحكاية لم توضح لنا هذا البعد (النبوءاتي) وطبيعته، لكن مسار القصة  يقود في النهاية الى هذا التقارب بين القصتين، والتي تنطوي على عدالة  ضرورية تشترطها النبوءة، وتؤكد عليها فكرة الثواب الذي لايجيء الا بعد المعاناة التي يرا فقها الصبر وخوض بحر الاوقات العصيبة.
هنا تلتقي الحكاية مرة اخرى مع القص القرآني، يقوم الاخوان بعد التقاء الثلاثة بقطع الحبل عن اخيهم الاصغر، حامل الزهرة، رغبة في الحصول على التاج، وهذا لن يحدث الا بالتخلص منه،  تماما كما القى اخوة يوسف اخيهم في الجب، يسقط في الهاوية بعد ان طلبوا منه جلب الماء من الاسفل، يسقط فيظنان انه مات، او أنه مات فعلا، والهاوية هنا هي البئر( بئر يوسف) يسرقان بعد ذلك من جيبه الزهرة، لكنهم لم يفطنا انها ليست بيضاء بل بنفسجية حتى يمسكها ابوهما، والزهرة المزيفة هنا هي المعادل لحكاية (الكيل) الذريعة التي اراد بها يوسف ايصال رسالته لأخوته، والسارد في الحكاية الشعبية وضع ثلاث زهرات لكي يمسك الحبكة بشكل جيد. يذهب الاخوان الى ابيهما، يروجان لخبر منحهم شعورا خلابا ومطمئنا، يقولان إنهم  لم يجدا أخيهما في الموضع الذي اتفقوا عليه، ربما مات او ضاع، او اتخذ له حياة أخرى، يمنحان الزهرة للملك لكنها زهرة لا تعمل، فالإشارة تؤكد إن الزهرة يجب ان تكون بيضاء، وبالطبع ينطوي اللون الابيض هناعلى النقاء والنزاهة التي يجب ان تكون من صفات البطل المثالي. هكذا يعرف الملك إن مؤامرة حدثت لابنه، لذلك يواصل انتظاره مؤمنا بطريقة ما انه سيعود، لكنه انتظاره  طال عشر سنوات وهي مدة مقاربة لعمى يعقوب، رغم ذلك يبدو قرار انتظاره   مبررا، لأنه يدرك أن وصول رحلة العمى الى نهاية النفق، وهذا الزهرة المزيفة هي علامة تستحق الاحتفاء  بقرب تحقق النبوءة، وان ابنه لم يمت، فغيابه مرتبط  بالزنبقة البيضاء. 
الابن المغدور ينجو، بعد ان يجيء الى المكان شخص، يدس يده في جيب الميت، يخرج زهرة الزنبق البيضاء، يمررها على وجهه، فيفتح عينه، وهو جزء  في الحكاية يتناص مع المسافرين اذلين اخرجوا يوسف من الجب وباعوه في مصر. هكذا تبدأ الحكاية مرحلة جديدة، وحياة جديدة للابن الاصغر، تماما كما حصل ليوسف حتى  وصل قصر العزيز.

ومن شروط الحياة الجديدة اوالنجاة من الميتة، ان يصاب الناجي بالجنون_ غياب الوعي_ لمدة عشر سنوات، وهوغياب نفسي  لكنه ضروري، مثل غياب يوسف الفيزيائي الذي كان له ضرورة في سياق القصة القرآنية، إذ يصل الولد القصر ولا يعرفه أحد، فيعمل في المطبخ عشر سنوات، انها سنوات الغياب قبل أن تنتهي المدة فيستعيد نفسه، كما كشف يوسف عن شخصيته في لقائه مع إخوته مستعيدا ذاته التي ظهر فيها متفوقا من الجانب الإخلاقي، قبل أن يكون هذا التفوق مرتبطا بالنبوءة.

هنا يصل الفعل الدرامي الى ذروته، لكن بمسار اخر ، فالصبي المولود من قبلة الابن الاصغر للملك يبلغ العاشرة، وهي المدة التي قضاها ابيه عاملا في مطبخ القصر، يبدأ بالبحث عن ابيه برفقة امه، يمرعلى الطريق ويستعيد قنينة النيذ، الذي لايتقص منها شيء  مهما شرب منه الناس، والخبز الذي لاينقص منه شيء كلما قطعوا ، والسيف الذي هو تميمة وحارس لحامله من كل خطر، وبفعل القوة السحرية لهذه الاشياء مجتمعة، يحصل الصبي على ملابس الامراء وجيش وحرس يتقدم بهم الى مملكة الجد،( الملك الاعمى) وهو الامر الذي حصل عليه يوسف نفسه في القص القرآني من ارتفاع الشأن والمنصب والمال والتقدير الكبير والمهابة، وهكذا يصل الحفيد وهو النسخة الثانية من يوسف فيعرف ابيه الذي كان قد استرد وعيه في تلك اللحظة، والذي يخرج زهرة الزنبق الابيض من جيبه، يمررها على وجه الملك فيستعيد بصره، يعترف الاخوان بجريمتهما، فيقوم الملك بتتويج الابن الاصغر ملكا، وهو شيء يشبه تحقيق نبوءة يوسف، او وعد الملك، ويزوجه من ام الصبي الحفيد، وهذه الاشارة ترد في القص الشعبي العراقي، ان الله اعاد لزليخة شبابها لكي تتزوج من يوسف، وهكذا تنتهي الحكاية بعد أن سارت على الطريق نفسها في  في القص القرآني، السؤال هنا، كيف تحركت قصة يوسف، وذابت في هذه هذه الحكاية الشعبية، ولماذا قصة يوسف بالذات، وماهو الخط التاريخي الذي يقودنا بعد السير عليه، للوصول الى سر  تأثر شعب بعيد جدا بقصة قرآنية، وماهي حدود الرفض والقبول دينيا عند هذا الشعب، هنا يدخل البحث الانثروبولوجي والتاريخي_ في مادة اخرى_ للاجابة على هذا السؤال.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي