قراءة في المعجم الجامع لكلام القصيدة للدكتور. رحمن غرگان

إبراهيم رسول / كاتب عراقي

كَعادتِه، يأخذنا الناقد د. رحمن غرگان إلى عالمٍ جماليٍ، وهذا العالم, رحبٌ واسعٌ، ندخله ونحن في شوقٍ لتذوق حواسه. الاختيار قطعة من العقل، ولمّا كان كذلك فلا بدَّ أن يكونَ اختيار الناقد، كان وفقَ شروط فنية صرفة، الديوان المنقود هو ( لم يعد أزرقاً) للشاعر المميز ( بحسب رؤية الناقد) محمد عبد الباري، ولما كان النقد حمال أوجه متعددة، نجد الناقد ينوّه لمسألةٍ مهمةٍ، ألا وهي، خلو البحث عن قائمة المصادر والمراجع، معتذراً بحسبِ قوله : كانت هذه الدراسة تمثل رؤيتي في القراءة، وإجراءاتي في النقد، ومن ثمة فقد كنت مكتفياً برؤيتي وطروحاتي والديوان على أنّها العالم الذي أخذت عنه، فلا يلحظ القارئ الكريم هنا مصادر ومراجع سوى هذه الروافد الثلاثة( رؤية الناقد، وطروحاته المتصلة بالتجربة المدروسة، والديوان الذي أدرسه). صفحة 16.
هذه الكلمة التي قدمَ بها الناقد كتابه للمتلقي، فالكتابُ كلّه، إشتغال نقديٌ وفق رؤية الناقد وطروحاته فقط، الذي يغلب على هذا الكتاب سمة الذاتية التي تجمّل الناقد بها ! فهو يحللُ ويفسر ويفكك ويشرحُ وينقدُ وفقَ تصوره وثقافته النقدية، والرأي النقدي له هو الرأي الوحيد في كلِّ الكتاب، إذ الناقد عللَ ونوّه من أوّل الكتاب أنّه يمثلُ رؤية نقدية واحدة لا غيرَ! وهذا رأيٌ شخصيٌ انتهجه الناقد في سلسلة نقدية أطلقها وسماها ( سلسلة نقد الشعر الآن). الكتاب صدر عن دار تموز ديموزي في سوريا بطبعته الأولى سنة 2021.
كانت المقدمة تمهيدية تنظيرية للمذهب أو السبيل النقدي الذي سيسلكه الناقد في نقده، وكيفية تطبيق الإجراءات النقدية الخاصة على هذه المجموعة الشعرية.
أما الفصل الأول: الذي عنونه ( المعجم الجامع) مفهومه ومكوّناته ومُمكناته، تناولَ في هذه الأفرع الثلاثة من العنوان الرئيس، بدأ بتعريفِ مفهوم المعجم الجامع الذي يراه: متسع متعدد، ومتشعب كثير الأبعاد... ( صفحة 21)، ومن ثمَ يعرف المكونات بأنّها : موجودات الحياة كلها( صفحة 30)، وهذه الموجودات التي يخص فيها، التي يمكن للخط أن يوظفها، أو اللون أن يأتي عليها، فهو يستنشق عبير الكلمات في البيت الشعري، ويشرب من الماء الذي يخرج منها معينها، الذي كان معيناً عذباً، أما الممكنات التي يقول فيها: تتصل ممكنات المعجم الجامع لكلام القصيدة، بوعي الكاتب أو ثقافة المنشئ ( صفحة 37)،  لأن الأصوات تكون صامتة بمعزل عن ممكنات الوعي، فهو تنظير شخصيٌ.
هذا الكتاب حفراً نقدياً في باطن النص الشعري، عبرَ الإجراء والطرح والآلية الخاصة برؤية الناقد، فهو يمتلك أدواته المعرفية التي يشتغل عليها تطبيقاً ومنهجاً.
فالفصل الثالث: (معجم الإيقاع)، لم يكن إلاّ دراسة نقدية تستهدف دراسة موسيقى البيت الشعري، وهذا شرحه عبرَ فصلٍ تناول فيه المفهوم وحركة الأشكال ومقدمة، هذا الفصلُ قرأَ الديوان الشعري من زاوية مهمة ألا وهي موسيقى البيت، وهذه الموسيقى تحتاج إلى حاسة السمع، ولا بدَّ أن يتصفَ البيت الشعري بنغمةٍ تُثير الأذن وتطربها! فالإيقاعٌ حاسةٌ سمعيةٌ، فوزن القصيدة وحركة القافية يشتغلان على وتر إيقاعٍ شفيف ومثير، لأنّ الإيقاع معجم من حيث هو فن، ومعجم من حيث هو علم(صفحة ١٠٩). فكلمة فن غير كلمة علم، ولكن كيف وضعَ الناقدُ هذه الكلمة الدقيقة! لعله يقصدُ بالفنِ تلكَ الحاسة التي تُلقى على الأذن فتسمعها كنغمةٍ صوتيةٍ مؤثرةٍ، هذه الأثر الصوتي الحواسي هو ما يكون فناً، أما الإيقاع علم، فهذا لا يكونَ إلا بمعرفةِ ما يتلاءم ووزن القصيدة من حركة القافية، لأن هذا يحتاج إلى خبيرٍ متمرسٍ ليوظفَ القافية بحركتها المناسبة في وزن القصيدة، أما الفصل الرابع والأخير، الذي عنونه ( معجم الصياغة الشعرية المفهوم والممكنات، هو يتخذ أسلوب المنهج في كل بحثه، إذ يبدأ بتوطئة صغيرة يُمهد للنظرية ومن ثم يعرف تلك النظرية وبعدها يبدأ الإجراء والتطبيق، يقول في التمهيد: الصياغة الشعرية بعض المعجم الجامع حين يكون النسيج منها لدى التركيب دالاً شعرياً حاملاً أفقاً واحداً لبثِّ المعنى الشعري. ( صفحة 157 )، الناقدُ يعالج النص الشعري معالجة شاملة، ويخضعه تحت بحثه النقدي. يقرأ النص شكلاً ومضموناً، يقرأهُ من خارجه وداخله، سيميائياً وبنيوياً، فهو يمارسُ عملية كشفية في النص، الذي يُسجلُ للبحثِ، أنّه لم يأتِ بالنظريةِ ليُطبقها على النص، بل كان نقده من النص وفي النص، هنا تجلّت النزعة النقدية بأحلى صورها، إذ لا بدَّ أن يُلتمس النقد من بنية النص، فالنص ماء والماء لا يحتاجُ إلى تفسيرٍ، فهو يعني الحياة والاخضرارُ والنماء، فالناقد انطلق من مبدأ رأيه وتجربته في النقد الأدبي الحديث والابيات الشعرية التي خضعت للبحث النقدي. هذا اشتغالٌ جديدٌ كلّ الجِدة، وعميق كثيراً، لا يقرأ الناقد النص قراءة عادية، بل هو قد أعاد القراءة مرة ومرات كثيرة، لأنّ المعنى الشعري, كثيرٌ ومتعددٌ في تجربةِ الشاعر المنقود، الناقدُ قد اختاره عن معرفةٍ وأسبابٍ إبداعيةٍ صِرفة، لذا تَعَمَقَ الطرحُ النقديّ كثيراً وخاضَ في جوانب عديدة، كثيراً ما وجدنا الناقد يمارس النقدَ للقصيدة كاملة أو مقطع شعري، ويدرسه كاملاً، فهو لا يشتغل على البيت الواحد ولا يهتم بقدر اهتمامه بالمجموعة، يذكر دلالة كل حرف وكيفية البناء وطريقة الصوغ، فمثلا في قصيدة للشاعر ورد حرف ( لا) ثلاثة عشر مرة، ولكل مرة دلالة تميزه عن الأخرى، هنا يقر الناقد الذي أحصى هذه الدلالات وفهمها فهماً نقدياً تاماَ، أن معنى المعجم الشعري لهذا النص، كثير كثرة تبعث إلى الجهد والإرهاق في أحيان كثيرة، أما تركيب الصياغة الشعرية فقد تتبعَ الكيفية التي صاغ الشاعر المجموعة كلها, وقدم الناقد رؤية حداثوية في هذه الدراسة التي عالجت تركيب الصياغة الشعرية، إن شدةَ الصرامة والمنهجية المُتبعة، فرضت على الناقد أن يسلك كل السُبل، فمسألة البياض والسواد في الصفحة، قد لا ينتبه لها المتلقي المستهلك، ولكنَّ المبدع، يُعطيها الاهتمام الكبير والكثير، فهو يعتمدُ على طرقٍ عديدة، لإيصال معناها الشعري، هذه الطرائف الكثيرة، هي نقاطٌ مهمة سجلّها الناقد في نقوده الحديثة، ويكاد يتميز د. رحمن غرگان بأنّه سلكَ هذه الطريقة وطبقها على كثيرٍ من بحوثه النقدية الحديثة.
أما ختام البحث أو خلاصات الختام كما يعنونها، ففيها يضع أمام المتلقي خلاصة هذه الرحلة البحثية الكشفية في نصٍ شعريٍ إبداعيٍ، يقول فيها: موجودات الحياة التي تستطيع مخيلة الشاعر استثمارها في إنجاز معجم القصيدة وإثرائه كلها تكوّن المعجم الجامع للكلام، سواءٌ ما كان متصلاً بعالم اللفظ نطقاً، أم عالم الكتابة خطاً، أم عالم الموجودات الأخرى من أشياء لا حصر لها. (صفحة175). فهذه الكلمة التي أوجز فيها الكتاب، هي نافعةٌ ومهمةٌ لمن قرأ البحث كاملاً ولكنها لن تغني عن قراءة الكتاب دراسته من أوّله حتى نهايته ! فلكل فصل ميزة وطريقة في البحث، يسلطُ الكتاب على تجربة شعرية مميزة، وهذه الدراسة هي عامة وكبيرة وعميقة، ويتضح معنى العمق في النقد، من خلال الفصول الأربعة التي كانت كلها جديدة.