loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

كيف تسقط الأمم والحضارات؟

breakLine

 


كلكامش نبيل | كاتب عراقي


تزخر صفحات اليمينيين، في الشرق والغرب، بصور تتحدث عن دورة التاريخ التي تبدأ بأوقاتٍ عصيبة تخلق رجالاً إشداء، فيخلق هؤلاء أزمنة الرفاه، لكن تلك الأزمنة تخلق رجالاً ضعفاء، وبفشلهم وضعفهم تعود الأوقات العصيبة من جديد. في الواقع، هذا الكلام لا يخلو من الصحة أبدًا، لكن الأمم والحضارات تسقط بأشكالٍ كثيرة من بينها الرفاه المفرط.

أتفق كثيرًا مع «أرنولد توينبي» في أن الحضارة تبدأ استجابةً للتحديّات، لأن الحياة السهلة في الغابات الاستوائية في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا وأميركا الجنوبية والغابات الأوروبية أخّرت ظهور الحضارات والزراعة هناك، بينما قتل الجفاف الشديد أو البرد القارص فرص التحضّر وقلّ السكان في الأصقاع المجدبة، لكن الجفاف المتوسط في أحواض الأنهار – في المناطق المعتدلة - دفع الإنسان في جنوب الأناضول والشرق الأدنى ومصر للزراعة وتنظيم الري واستغلال مياه الأمطار. وهكذا نرى أن التحدّي الشديد قاتل لفرص الحضارة، ووفرة الطعام يورث الكسل، في حين يحفّز التحدّي المتوسط على الإبداع.

بل إن التحدّي العنيف قد يدفع لبناء أمبراطوريات بطرقٍ أخرى، ومنها التوسّع المغولي، وحتى اليوناني (فقد كان البر اليوناني الوعر فقيرًا مقارنة بالشرق)، بل ودفع الإنسان لاستئناس الجِمال – في القرن الثاني عشر قبل الميلاد في الغالب – فأحدث ذلك ثورة في مجال النقل والتوسّع، فلم يغزُ الآشوريون مصر إلا مع جمال العرب ولولا الجمل ما كان لـ«درب الحرير» أن يبصر النور ناقلا البضائع والأفكار ما بين طرفي العالم القديم – الصين وأوروبا – وما بينهما.

في السابق، كنت أسخر ممّن يعتبر الرفاهية إشارة للسقوط أو أنها المرحلة الأخيرة في حياة كل شعب، ولكن التاريخ يخبرنا أن الأمر حقيقي. غالبًا ما يجري الإنسان خلف ما يسقطه في النهاية، ويكون حلمنا هو كابوس الغد، وهدف حياتنا هو ذاته سبب مقتلنا. كل ما يحيط بنا بذرة تحمل في داخلها سرّ فنائها وتسعى إليه بحماسة.

اقتصاديًا، تنتعش المصانع في بعض الدول بسبب الأيدي العاملة الرخيصة، وبمرور الوقت يتحسّن الدخل ومستوى المعيشة، وترتفع الأجور، ويزول سبب الانتعاش ـ العمالة الرخيصة – فتهرب المصانع ورؤوس الأموال إلى أسواقٍ ناشئة جديدة وتذوي القديمة ويضربها الكساد.

اجتماعيًا، تسعد الشعوب بالرفاهية وتفتخر بتحقيقها، ولكن ارتفاع مستوى المعيشة يزيد من كلفة تربية الأطفال ويعزف الشباب عن الزواج، ويحجمون عن الكثير من الوظائف، وبمرور الوقت تسقط البلاد في كابوس الشيخوخة، فتضطر لاستيراد المهاجرين – ليكونوا عمالة شابة تعوّض النقص أو لشغل الوظائف المتدنية – وبمرور الوقت تتغيّر الديموغرافيا والثقافة نتيجة الوفرة التي جعلت البلد مغريًا للهجرة ذات يوم.

عسكريًا، تولد الإمبراطورية لحظة توسّعها، لكن ذات التوسّع – الذي يثريها أولاً - يرهقها عسكريًا وديموغرافيًا ويستنزف ثرواتها المكتسبة في قمع الثورات والحروب، وبالتالي تسقط ما أن يفوق توسّعها قدرتها على الإدارة والتحمّل. 
على صعيدٍ آخر، تسقط الأديان والأيديولوجيات ما أن تخضع رموزها للتشكيك والمساءلة وتسقط قداستها، وكذلك الحال مع الروايات التأسيسية للدول والكيانات السياسية.

غالبًا ما تنبع تلك التساؤلات من عمق المؤسسة، ومن أبنائها، حيث إن الكثير من المؤسسات التعليمية ارتبطت بالقصر والمعبد – في الجزء الأكبر من تاريخ البشرية – لكنها انتهت بتخريج أشخاص واعين، وأحيانًا طامعين، ليهاجموا المؤسستين الملكية والدينية. ارتبطت الكثير من الجامعات القديمة في أوروبا والعالم العربي في العصور الإسلامية بالمؤسسات الدينية، لكنها خرّجت أشخاصًا هاجموا تلك المؤسسات، وكذلك الحال مع مدارس أوروبا – التابعة للكنيسة – ومدارسها التبشيرية حول العالم والتي خرّجت النخب في الدول المستعمرة لاحقًا وكانوا روّاد العلمنة والتحرّر ومناكفة الاستعمار.

في موسوعته «قصة الحضارة»، يسلّط «ويل ديورانت» الضوء على العامل الفكري وسقوط الأسطورة كمؤشر على نهاية مرحلة حضارية ونشوء غيرها، بعبقرية، ليقول ما ترجمته كما يلي:

«يميّز نشوب توترٍ معيّن بين الدين والمجتمع المراحل العليا لكل حضارة. يبدأ الدين بتقديم المساعدة السحرية للناس المتضايقين والحائرين؛ ويبلغ ذروته بإعطاء الشعب تلك الوحدة في الأخلاق والمعتقد، والتي تبدو مواتية للغاية لحكم الدولة والفن؛ وينتهي بقتالٍ انتحاري من أجل قضية الماضي الخاسرة. فبينما تنمو المعرفة أو تتغير باستمرار، فإنها تتصادم مع الأساطير واللاهوت، اللذين يتغيران مع الراحة الجيولوجية. في مراحل لاحقة سوف يُنظر للسيطرة الكهنوتية على الفنون والآداب باعتبارها قيدًا مزعجًا أو حاجزًا بغيضًا، ويتخذ التاريخ الفكري طابع "الصراع بين العلم والدين". بالتقادم، تميل المؤسسات التي كانت في البداية في أيدي رجال الدين، مثل القانون والعقاب، والتعليم والأخلاق، والزواج والطلاق، إلى الهروب من السيطرة الكنسية، وتصبح علمانية، وربما دنيوية. وتتخلى الطبقات المثقفة عن اللاهوت القديم، وبعد بعض التردد، عن القانون الأخلاقي المتحالف معه؛ ويصبح الأدب والفلسفة مناهضين لرجال الدين. ترتفع حركة التحرر إلى مستوى العبادة المفرطة للعقل، وتسقط في خيبة أمل تشل كل عقيدة وكل فكرة. ويتدهور السلوك، بعد حرمانه من سنده الديني، إلى الفوضى الأبيقورية؛ وتصبح الحياة نفسها، بعد حرمانها من الإيمان المُعزّي، عبئًا على الفقر الواعي وعلى الثروة المرهقة على حدٍ سواء. في النهاية يميل المجتمع ودينه إلى التناغم، مثل الجسد والروح، ويدخلان في موت متناغم. وفي هذه الأثناء تنشأ أسطورة أخرى بين المضطهدين، وتعطي شكلاً جديدًا من الأمل للبشر، وشجاعة جديدة للجهد البشري، وبعد قرون من الفوضى تبني حضارة أخرى».
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي