loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

لينيت يادوم بواكي: التخيل تكريس للواقع

breakLine
2024-04-03

 



سامي عمامي/ كاتب وفنان تشكيلي تونسي


●●
تصدير: "الفن يعيش من خلال خيال أولئك الذين يراقبونه ودون هذا الاتصال لا يوجد فن"
*كيث هارنج

●●

بتصور تشكيلي معاصر تمكنت الرسامة والكاتبة البريطانية ذات الأصول الغانية لينيت يادوم بواكي من فتح نوافذ جديدة في مسارات الفن التشكيلي المتعددة والمتنوعة في وقتنا الحاضر، متسلحة بملكة الخيال كقوة إبداعية لإعطاء قيمة مفاهيمية لعملها.
فمسارها لا يهدف لتغييب الواقع وإطفائه بل ينطلق منه لتشكيل تصورات خيالية لما هو حقيقي في الواقع، أتى ذلك كله لحظة إدراكها أن تمثيل واقع ما في حقيقة الأمر يعدّ أكثر تعقيدا من خلق عالم جديد.
على هذا النحو انفتحت أمامها مجالات تجريبية أكثر لم تطلها يد رسام من قبل. فامتلكت بذلك أسلوبًا فريدًا مبتكرًا مغايرًا على مستوى الموضوعات والصور والدلالات التي التقطتها من محيطها وحوّلتها إلى مادة إبداعية.
مزج طريف يتحوّل فيه الواقعي إلى خيالي، تخال أنها تتجاهل كلّيًّا النتيجة الجمالية للعمل، فلا شاغل لديها سوى تجريب سلطة الخيال على سلطة الواقع اليومي، مُعتمدة في ذلك على ألوانها الناعمة الترابية وخيالها الحيوي لتشكيل عوالمها السحرية اللامتناهية.
ولعلّ ما يميّزها حقًّا هو تَخلِّيها عن نقل الجمال الكامن في طبيعة الموجودات إلى الرغبة في خلق صور جمالية من الصفر، وذلك عن طريق التجريب المستمر القائم على الذاكرة البصرية المشبعة بتفاصيل الحياة البسيطة.
 كما تفرّدت "لينيت بواكي" برسم صور لشخوص ملوّنين (الزنوج) فالغياب التاريخي النسبي للأفراد الملوّنين في عالم الفن البصري أعطى قيمة مضافة لمنجزاتها حتى وإِن نفت في مرات عدة قصدية هذا التوجّه، فهي تصبّ جلّ اهتمامها في صياغة احتمالات جمالية جديدة للعالم إذ تقول: "يميل الناس إلى تسييس حقيقة أنني أرسم شخصيات سوداء... لكنّ نقطة البداية بالنسبة إليّ هي دائما لغة الرسم نفسها ومدى ارتباط ذلك بالموضوع".


يمثّل الخيال لدى "لينيت بواكي" أداة محورية في بلورة الرؤية الفنية والفكرية وتشكّلها، فليس خافيًا على متتبّعي مسارها اهتمامُها بتوظيف الخيال لنسج تركيبتها التشكيلية من خلال الاستناد إلى الواقع ذاته، فهي و إِن بدا أبطال لوحاتها شخصيات مُتخيلةً غير معروفة وبلا هوية واضحة فإنّ تشكيل ملامحهم ارتكز بالأساس على الذاكرة البصرية اليومية التي تلتقطها عدسة عينها. فإنتاج الأفكار وتوليد الصور بهذا المعنى مستوحى من المعرفة السابقة (الواقع).
إنها تبتكر من التضاد معنًى آخر للعالم وصورًا بصريةً تمثيليةً تتخطى بها حدود المألوف وإغراءات التوافق مع الاتجاهات الفنية القائمة لتلبية الذائقة الجماعية.
نجد لهذا التوجه مرجعيةً فنيةً أدبيةً، داخل جنس الرواية تحديدًا، وهو ما يسمّى بالواقعية السحرية حيث جعلوا من "المعتاد و اليومي شيئًا رائعًا وغير واقعيّ". تأٌثّرٌ قد تقلّ غرابته إذا ما عرفنا أن "بواكي" في حقيقتها كاتبة ومحبّة للشعر، وهو ما انعكس بدوره على جملة من عناوين لوحاتها المتسمة بالشعرية الدافئة، شكّلت بها لغتها البصرية الخاصة وطريقة رؤيتها للعالم إذ تُعدّ الكتابة أمرًا جوهريًّا ومركزيًّا في صناعة الفعل الإبداعي لديها، ودائما ما كانت تصرّ على أنها تكتب عن الأشياء التي لا تستطيع رسمها وترسم الأشياء التي لا تستطيع كتابتها، وهو ما حفزّها للمضيّ قُدُمًا في الاكتشاف والتجريب ومتابعة رحلتها الجمالية بشغف لامتناه لا يخفى عن العين الممعنة في لوحاتها، لتعبّر عن هذا الشغف بصريح العبارة إذ تقول: "أدركت في وقت مبكر جدًّا أن الرسم  من الطبيعة لم يكن شيئًا يعجبني. لقد كنت مهتمّةً دائمًا باللوحة أكثر من الأشخاص". 
كأنّها تتبنّى ضمنيًّا الموقف الذي يرى أن مَن يرسم من النماذج لا يمارس إلّا نوعًا من التتبّع بالعين وهو بهذا لا يضيف لنفسه كفنّان شيئًا ولا يقدّم لنا طرحًا تمثيليًّا نموذجيّا لعالمنا.


 

هذا الخيال المتدفق سمح لها بخلق شخوص غير واقعية، فلا أسماء تدلّ عليهم ولا عناوين تميّزهم، وجوه بملامح مألوفة ولكنها غير معروفة، يتوه المتأمل في أمرهم، يقومون بأفعال بشرية مثل القراءة والرقص والغناء، أو تجدهم منشغلين بالتأمل والتفكير، فينطبع بداخلنا إحساس المعرفة المسبقة بهم، يمتلكون عوالم تشبه عوالمنا، يحملون مشاعر الحزن والفرح مثلنا تماما، يبتسمون فنبتسم، يحزنون فنحزن، كأنهم صاروا منّا ووجدنا فيهم عزاءنا، لكنّ واقعيّتهم هذه تَسقُط أمام أوّل سؤال.. من هم؟ 
يجذبونك بنظراتهم الغارقة في التأمل وتعبيراتهم الخادعة. ينظرون إلينا بتلصّص خفيّ وكأنّهم يقومون بمراقبة ما نفعل، شخصيات أخرى تدير لنا ظهرها كي ننظر إليها وتدفعنا إلى تتبّع تفاصيلها الصغيرة.
هنا تحديدًا يمكننا القول إنّ بواكي قد استطاعت أن تُنشِئ علاقةً تواصليّةً وجدليّةً، حميمةً ومرحةً، بين المتلقي ومنجزها. وتجلّت لنا فيها براعتها في توظيف الخيال لابتكار تمثّلات بهيّة هاربة من الزمكاني مَيّزَتها عن بقية التجارب التشكيلية.
هذه المراوحة الممنهجة والذكية بين ثنائية الخيالي والواقعي هي ما جعلت من منجزات بواكي الفنية خارج التصنيف الزماني والمكاني. شخصيات خالدة، لا البيئة المحيطة بهم ولا ملابسهم ساعدتنا على تحديد هويّتهم، إفلات متعمّد أضفى على هذه التجربة بُعدًا كونيًّا لمنجزاتها.
وما يعمّق هذه الفرادةَ أن كل هذه الشخصيات التي تسكن فضاء لوحاتها لها بشرة سوداء، وكأنها جاءت لتعوّض كل ذلك الغياب على امتداد تاريخ الفن البصري، ولتغيير العادة التمثيلية لأصحاب البشرة البيضاء على حساب الملوّنين.
فباستثناء تجربة بول غوغان ورسوماته لسكان جزيرة تاهيتي والتي اشتغل فيها على رسم السكان الأصليين أصحاب البشرة السوداء لن نجد أبدًا حضورًا قويًّا لهذه الفئة في أعمال الفنانين الأوروبيين عبر المسار الخطي الطويل للفنّ التشكيلي الأوروبي.

تغييب طال أمده، سلّطت بواكي الضوء عليه، حيث تفاجئنا بلوحاتها الداكنة أحادية اللون تقريبًا، تكاد فيها الشخوص لا تُرى، وهو ما يحمل المتلقي على مزيد التدقيق في تفاصيل العمل لفهم طبيعة المشهد نتيجة لتداخل الشكل مع خلفية اللوحة، فبضربات فرشاتها العفوية والقوية تعجن الرسامة ألوانها لتبث فيها الروح والحركة ولتقدّم لنا ثمار خيالها في تركيبات مبهرة وعاطفية. مشاهد تثير فينا الأسئلة أكثر ممّا تقدّم لنا الأجوبة.
لقد نجحت بواكي من خلال تجريبها التشكيلي في دمج الواقع بالخيال خالقة تبادلًا في الأدوار ساهم في تثبيت شكل اللوحة النهائي، ليضخّ هذا التجديد طاقة إبداعية وروحًا مرنةً في السردية البصرية لمنجزاتها. فنّ لا يخلو من قدرة مدهشة على التشكّل حسب رغبتها وخيالها المتلألئ الخلّاق.

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي