loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

" مسرح الشر الكامل"

breakLine

رانيا كرباج | تشكيلية وكاتبة سورية

 

ونحنُ نحضر مسرحَ الشرِّ الكامل على كوكَبِنا اليوم، من المُفيدِ أن نلتفِتَ إلى شياطينِنا الصغيرةِ، نُربِّتُ على رؤوسِها، علّها تشعُرُ بالطُمأنينةِ فلا تتعملَق هي الأخرى.
أمّا وبحسب التاو-تي-تشينغ انجيل الفلسفة الطاوية للحكيم الصيني لاو-تسو، فإنّه ما من شرٍّ كاملٍ وما من خيرٍ كاملٍ، والحياةُ تُبنى على التناقضات، قد يكونُ هذا صحيحاً، لكن أليس من الواضح أنّ بعضَنا يتأبّطُ خيراً وآخرونَ شرّاً، و الواضح أيضاً أن هناكَ من وصل، ولا يسعُنا أمام هولِ الشرورِ التي تحوطُنا سوى أن نعوّلَ على تلكَ النقطةِ البيضاء التي رآها الصينيونَ علّها تبزغُ من قلبِ ظُلمتِنا. أتساءل إذا كانت الحياةُ خصباً و خلقاً و نموّاً، أيعقلُ أنّها انبثَقَت من الظُلمات! و إذا كان لا بدّ لها من نقيضَين كي تحقّقَ سيرورَتَها بحسبِ الصينييّن، ألا تجدونَ معي أنّ طغيانَ الايجابيّةِ أو المساحةِ البيضاءِ، أو ما نسمّيهِ خيراً هو شرطٌ لازمٌ لديمومَتِها؟ بينما غلبة السلبيّة والشرور على المَشهَد، أليسَت مؤشّراً كافياً على اقترابِ موتِنا؟
يُقال إنّ سياسة خلطَ الأوراق هي لعبة الشيطان المُفَضّلة، ذلك أنّه كي يدافعَ عن نفسه لا يملكُ سوى أن يخلطِ الخيرِ بالشَرّ والشرّ بالخير، هكذا كي يُضلّلَ اللاعبين، ويتحوّل أحياناً من مُعتَدٍ إلى ضحيّة، و مع غيابِ تأثير الدين، و تراجع بَريق الفلسفة، و تحوّل الفن من سيّدٍ إلى عبدٍ، صرنا أرضاً خصبةً لكلّ الأفكارِ بغضّ النظرِ عن خَيريَتِها أو فائدتِها، حيث تُطرَحُ على كوكبِنا اليوم أفكارٌ متنوّعةٌ من أقصى التطرّف حتى أقصى التحرّر، أمّا دعاتُها فلا يملّونَ يحاربونَ بعضهم البعض.
استَوقفَتني مقولةٌ لنيكوس كزنتزاكيس في رواية "الإخوة الأعداء" حيث يقولُ على لسانِ رجلِ الدين المَسيحي "على الخيرِ أن يحملَ السلاح" وأنا أوافقُهُ الرأي تماماً، شرطَ أن يتأكّدَ الخيرُ أنّهُ خيرٌ خالِصٌ، ضاقت به كلّ السُبُلِ المُمكنة من أجلِ تحقيقِ ذاته، ولم يبقَ سوى أن يلجأَ إلى تلكَ البقعةِ المُظلِمة في قلبِ بياضِهِ، لكنّ السؤالَ، هل ستكونُ هذه بدايةً لتورّطِهِ مع قوى الشرّ و بالتالي خسارَتِهِ لذاتِهِ؟ 
ترفض المسيحية بالمُقابل مفهوم الثنائيّة، وتعتبر أنّ الله خيراً كاملاً، أمّا الإنسان فهو مخلوقٌ على صورتِهِ و مثالِهِ، لكنّ المسيحية في ذات الوقت تحترم حريّة الإنسان، و تعتقد أنّه مُخيّر دائماً، بين أن يقبلَ يسوع في حياتِهِ فتكونُ بوصلتُهُ الخير، أو يرفُضَهُ فيفنى، نقرأ في انجيلِ يوحنا على لسانِ المسيح " أنا هو الطريقُ و الحقُّ و الحياة، لا يأتي أحدٌ للآبِ إلا بي". كما تخبرُنا الأساطير التوراتيّة عن سقوط الإنسانِ من الجنّة بسبب سعيِهِ وراءَ المعرفة، معرفةِ الخيرِ و الشَرّ، و على اعتبارِنا من نسلِ آدم، لا بدّ أن نتساءل، أنكونُ أبناءَ قايين الذي قتلَ هابيل؟ بمعنى آخر أنّنا ورثة الخطيئة أو الشرّ، لقد سقطَ وجهُ قايين عندما لم يقبل الربّ ذبيحتَهُ التي هي من ثمرِ الأرض، و في المُقابل قبلَ ذبيحةَ أخيهِ هابيل الراعي، يُقالُ إنّ سقطَ وجهُهُ تعني أنّه وقعَ في الحقدِ و راحَ يبحثُ عن انتقام، يرى البعضُ أنّ إله التوراةِ غيرُ عادلٍ، فهو الذي أشعلَ الغيرةَ في قلبِ قايين ودفعَهُ إلى ارتكابِ جريمة، بغضّ النظرِ عن فكرة عدالة الله في التوراة، لم لا يكونُ تصرّف الربّ الغريب هو الاختبار الأوّل الذي سقَطَت فيه الإنسانيّة؟ ماذا لو تقبّل قايينُ حكمَ إلهِه، و عادَ إلى الاهتمامِ بأرضِه بصبرٍ و ايمان، ربما كان الربّ سيكافئُهُ لاحقاً!
لكن يبدو أنّه من السهلِ أن نتركَ قوى الشرّ تمتطي ظهورَنا كي تُحقّقَ مآربَها، أو ما نظنّهُ مآربَنا، و هي في المُقابل لن تترجّل إلا عندما توصلنا إلى حتفنا. و إن صحّت تلكَ المقولةُ، فنحن عبثاً نحاولُ إنزالَ خطيئةَ قايينَ عن ظهورِنا، لقد اخترنا الطريقَ يوماً، وها نحن نمضي به حتى نهايتِهِ القصوى، يقالُ في المسيحية إنّنا حمَلةُ خطيئةٍ أصليّةٍ، نتحرّرُ منها بواسطةِ سرّ المعموديّة حيثُ تحلّ علينا نعمةُ الربّ، لستُ أدري إن كان المقصودُ بالخطيئةِ الأصليةِ، تلكَ اللحظة الفارِقة في الزمن حين اختارت الإنسانيّة الشرَّ أو العصيان؟ لكن المسيحية تُخبرُنا بأنّهُ يلزَمُنا قدرة إلهيّةً كي نتحرّرَ من قوى الشرّ التي تمتطي ظهرَ الإنسانيّةِ منذُ البدء.
أما في العصور الحديثة، فيُبشّرنا عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، بأنّ حضارتَنا ما هي سوى محاولة من أجلِ التحرّر من همَجيَّتِنا، فنحنُ نحملُ في أعماقنا كائناً بدائيّاً يتصرّفُ حسبَ ما تُمليهِ عليه غرائزُهُ، في حين أنّ الحضارة هي وعي و قدرة على ضبطِ مشاعرِنا و ردودِ فعلِنا من أجلِ منفعَتِنا الخاصة و المنفَعة العامة، يؤكد فرويد في كتابه "قلق في الحضارة" على أنّ الإنسان عدواني بطبيعته وهو يولدُ بكمية من العنف، بدليل الحروب المدمّرة التي عرفتها البشرية، و يعتبر أن تطوّر الحضارة يرتكز على التخلّي عن الدوافع الغريزية الفردية و الارتقاء، في نفس الوقت لَفَت علم النفس انتباهَنا إلى الكبت و مخاطِرَهُ على صحة الأفرادِ و المُجتمعات، ليجعلَنا نتساءلُ، هل أمراضُ مُجتمعاتِنا المُتحضّرة هي الضريبة التي سندفعُها و نحن نحاولُ أن نتخلّصَ من همَجيّتِنا؟ إذ نقرأ على لسان فرويد أيضاً" ما نسمّيه بحضارتِنا هو الذي ينبغي أن نحمّلَه إلى حدّ كبيرٍ تبعيّةَ بؤسِنا".
يُقالُ إنّ دماغَ الإنسانِ قد نما على مدى ملايين السنين من التطوّر، ابتداءً من الجزء القاعدي إلى المراكز العُليا، أمّا أكثر أجزاء المخ بدائيّة فهو جذع الدماغ المُحيط بالحبلِ الشوكي، هذا الجزءُ مسؤولٌ عن وظائف الحياة الأساسيّة لكنّه لا يفكّر و لا يتعلّم، نشأت منه لاحقاً مراكز المشاعر ثمّ نشأ العقلُ المفكِّر أو القشرة الدماغية،  هذا مما يدعم فرضية أنّ الحضارة هي ثمرة تطوّر دماغ الإنسان و قدرتِهِ على ضبطِ و تنظيمِ انفعالاتِهِ و غرائزِهِ، لكن أيكونُ الشرّ أو ما نسميّهِ شرّاً، هو هذا العقل البدائي فينا، الذي يتركُ مشاعرَ الغضب و الشهوة و الانتقام تقودُهُ دون أن تخضع لفلترة المراكز العصبية العليا، و التي من المُفترَض أن تدعوهُ إلى التعقّل أو بمعنى أدَقّ التحضّر، و إذا كنّا كلّنا نحمل في عُمقِنا هذا الكائن البدائي الذي تسيطرُ عليه الغريزة، فكيف نفسّر أن منّا من يميلُ إلى الخيرِ و آخرونَ إلى الشرِّ؟
تدّعي بعض المذاهب الدينية والمدارس الفلسفية، أنّ هناكَ ضميرٌ خفيٌّ نقيٌّ يحكمُنا، و أنّ الطبيعة البشرية هي في الأصلِ خيّرة، يدعو الصوفيون مثلاً إلى وحدة مزعومة بين الخالقِ ومخلوقاتِهِ من جهة، وبينَ المخلوقاتِ فيما بينها من جهةٍ أخرى، بحيث تختفي الذات الفردية في الذات الكليّة، وتصبحُ المحبة هي الدينُ و الديّان، يقوم المذهب الأخلاقي في تصوّف ابن عربي على سبيل المثال على الذوق و المحبّة، و هذه الأخيرة بنظره تمثّل أصل الوجود و أصل المعرفة، وفي هذا السياق يقولُ الغزالي: "إنّ المحبّة هي الغاية القصوى من كلّ المقامات الصوفية" ألا يعني هذا أن الخيرية أصيلةٌ فينا وما الشرور سوى أمراضٍ وانحرافاتٍ عن المسار الطبيعي.
أمّا حضارتُنا المتطوّرة فقد أنجبَت أجيالاً متطوّرةً من الشرورِ، إذ استطاعَ الإنسانُ فعلاً أن يفلترَ رغباتِهِ البدائية، ويحوّل غضبَهُ وأطماعَهُ و كل ما يعتَمل في عقلِهِ من مشاعرَ دونيّة، إلى مخطّطات و استراتيجيات خبيثة تسخّر آلة الذكاء البشري العظيمة من أجلِ المزيدِ من الشرور، أتساءل كيف كان سيكون حالُ كوكبِنا في حال تمّ تسخير طاقات و مواهب الإنسان في سبيلِ مزيدٍ من الخير؟
يظهرُ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في القرن التاسع عشر، ليقلب كل مفاهيم المجتمع الأوروبي، و يتّهم فلاسفَتَهُ بالتفلسف تحتَ جناحَي الفكر المسيحي دون امتلاك جرأة الوقوف في العراء، فهو يدعو إلى فلسفة تذهبُ أبعد من مقولاتِ الخير و الشرّ، كما يُمجّدُ إرادة القوة، و يقسم الأخلاق، إلى أخلاقٍ للسادة وأخلاقٍ للعبيد، حيث أخلاق السادة هي البطولة والإقدام وحبّ السيطرة، وقد كانت سائدة عند الرومان و الإغريق، أمّا كل ما يدعو إلى الشفقة والمحبة والتكافل الاجتماعي، فهي أخلاق عبيدٍ، وقد دخلت أوروبا عبر الفكر المسيحي ذي الجذور اليهوديّة.
وإذا كانت الإنسانية اليوم تقفُ على أرضٍ مُخلخلة، فذلكَ لأنّها فقدت قواعدها الأخلاقية التي بلوَرتها مع التجربة و الزمن، فعصر المثالية التي فرضَتها الأديان السماويّةُ برهةً على الكوكبِ قد ولّى، كذلكَ صوفية الشرق الأقصى، أمّا أخلاقيات عصر الأنوار الاوروبية التي أرست قواعد اجتماعية تقومُ على المساواة والحرية والإخاء، تبّين أن لها وجهٌ استعماريّ قبيح، الفن والفلسفة والعلوم، أصبحت أدوت بيدِ أصحابِ السلطة الذين يدحرجونَ كرةَ الشرّ من بقعةٍ إلى أخرى على هذا الكوكب غيرَ آبهين بموتِنا، و كـأنّهم أمام رقعةِ شطرنج، يحكّونَ رؤوسهم بانتظارِ الوصولِ إلى لحظةِ " كشّ ملك".
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي