loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

"نحن عاجزون عن معرفة أنفسنا" مطالعة في مثنوي "عقلنامه" لسنائي الغزنوي

breakLine

 


محمد الحسين / كاتب عراقي


يعد الشاعر الفارسي الكبير سنائي الغزنوي أحد أساطين الشعر الفارسي الكلاسيكي، وهو من رواد الشعراء المتصوفين، أو ما يعرف عنه بأنه أول من أدخل التصوف للشعر أو أدخل الشعر للتصوف، وهو من أساتذة المثنوي وعباقرته، هذا النظم الفارسي الفريد الذي تميزت به اللغة الفارسية عن غيرها من لغات العالم، فسنائي أبدع أيما ابداع في كتابة المثنويات، وكانت له قدرة فائقة على النظم بطريقة سلسة وبمضامين رائعة.

سنائي الغزنوي، شاعر وفيلسوف على مستوى عال من الإبداع والتمكن، يمزج في شعره بين العرفان الإسلامي والفكر الإنساني، دون أن يغفل عن الثقافة الإيرانية أو يتحاشاها، فيقدم للمتلقي ما ينفع ويفيد على جميع المستويات، وهو يحاول مع ذلك معالجة ما تتضمنه حياة الإنسان من مشكلات اجتماعية، وقضايا دنيوية هي في الواقع أصل وديمومة الإنسان وماهية وجوده.

ومن أهم القضايا والموضوعات الفكرية التي تعرض لها سنائي الغزنوي بأسهاب موضوع "الكمال"، فالكمال عند الغزنوي مطلب كل إنسان، وبوصلة طريق الفرد، ولكنه ينتبه إلى ذلك النوع من الكمال الذي أراده الله للإنسان، وليس الكمال الذي يريده الإنسان لنفسه، فحياته أي -حياة الإنسان- قد سيرها الله بقدرته وليس باستطاعة الإنسان أن يغير شكلها وقرارها ولكنه باستطاعته أن يوجه عقله وقلبه ليلائم تلك الحياة ويتخذ معها طريقها الصحيح المتجه نحو الكمال.

وقد كتب سنائي في هذا الموضوع مثنوي شديد الأهمية وليس بقصير، وهو في هذا المثنوي استطاع أن يقدم رسالته في هذا الهدف بلغة شعرية باذخة، مطعمة باستشهادات من الذكر الحكيم كعادة الشعراء الفرس القدامى، وبأسلوب مميز أقرب ما يكون لأسلوب السهل الممتنع، ولكن لم ينل هذا المثنوي حظه من الدراسة والنقد والتمحيص، كما لم تطرح جميع مثنويات سنائي الأخرى على طاولة الدراسة والبحث وهو تقصير كبير في ذلك على بعض جوانب الثقافة الإسلامية.

مثنوي (عقل نامه) أي كتاب العقل أو رسالة العقل، والذي كان له عنوانا رئيسيا آخر : "في حكم مراتب الإنسان" وهو ما ينبه إلى أهمية الحكمة في صقل وتوجيه العقل، عقل الإنسان الباحث دوما عن مراتب الكمال والإنسانية.

وهذا المثنوي يقع في عشر صفحات فقط من القطع الكبير حسب الترجمة العربية الحديثة له، ويتكون من حوالي مئتين واثنين وأربعين بيتا، وقد وفق المترجم المصري الدكتور يوسف عبد الفتاح فرج في تقديم الترجمة العربية لهذا المثنوي مع مجموعة أخرى من مثنويات سنائي صدرت في كتاب مستقل عن المشروع القومي للترجمة في مصر، وقام المترجم الدكتور محمد علاء الدين منصور بمراجعتها.

يبدأ المثنوي وعلى الطريقة التقليدية للمثنويات الفارسية والقصيد الفارسي بمقدمة بيانية واضحة، جسدت نشأة المثنوي وأحكمت بنائه. والمثنوي الذي بدأ بالسلام وانتهى به، ضم مجموعة رائعة من الحكم والوصايا التي كانت دليل الإنسان إلى عقله، ودليل العقل إلى الحكمة.

ثمة قوتان تشكلان الصراع الدائم داخل هذا المثنوي وداخل الإنسان في واقع الأمر وهما القوى الإنسانية (عالم الملكوت) والقوى الحيوانية (العالم السفلي).

ويقدم الغزنوي الدليل القاطع في فكرته الرئيسة التي تنص على أن روح الإنسان كائنة ومتشكلة بين الحيوانية والإنسانية، أو أنها مجتزة من كليهما، ولكن الإنسانية بالطبع هي الأفضل والاحسن في جميع الوجوه، وحتى لو كانت روح الإنسان حيوانية فعليه أن يستصلحها ويحيلها إلى روح إنسانية وذلك من خلال وعيه برسالة العقل ومحتواها.


ويقول الغزنوي أن الروح التي خلقت من العدم باقية وابدية، وهو يقول في البيت ذي الرقم ١٩٣ وبعده :
_واعلم أن أرواحنا التي خلقت من العدم باقية وابدية 
_كنت عدما وسوف ترجع عدما، لأن وجودك وعدمك شيء واحد.

ومع إيمانه شبه التام بعدمية الإنسان، إلا أنه يعود إلى فكرته المادية التي كانت الأصل في خلق الإنسان، وهو في نظره يعتقد أن الإنسان لن يصل إلى الكمال أو إلى مراده، ولن يتحقق عنده اليقين التام حتى يدرك جوهره المادي، فيقول في البيت ١٩٨ :
_وهذه العناصر الثلاثة ملازمة لك، وكلها متعلقة بك في جميع الأحوال. 
وهو يقصد بالعناصر الثلاثة أي التراب والماء والنار، حيث جوهر الإنسان المادي الذي تكون من هذه العناصر، كما جوهر الكون.

وقد سبق لسنائي الغزنوي ان اثبت في إحدى مثنوياته الأخرى (سير العباد إلى المعاد) جوهر فلسفته العرفانية القائلة بأن الموجودات (المخلوقات) لم تزل في حركة مستمرة جيئة من الله وعودة إليه، اي انها دائرة في المسار الهيولي شبه المغلق، ولكن يشترط في الرجوع المعرفة، فإن النفس لن ترجع لبارئها ما لم يتحقق الهدف الأسمى من الفلسفة وهو المعرفة والتي يؤسس لها من خلال كمال النفس أو العقل.

يمزج الغزنوي رؤيته مع المنهج القرآني، ليغتنم فرصة التوفيق لفكرته، متخذا من الفكر الإسلامي العمد الأساس لقوام أي منهج للإصلاح البشري، وهو يفعل ذلك بشكل عبقري حيث أنه يختار ما تيسر من الآيات القرآنية الكريمة، بما يوحي أنها أفكاره الخاصة، وهو يرى أن كلام الله تعالى موجه إلى الإنسان بشكل عام دون تمييز، ويؤكد ذلك في أكثر من موضع مثل قوله :
_ابحث عن العلم ولا تكسل لأن "سنريهم" موجه إليك من كلام الله. 
كما يقول في موطن آخر :
_فأذهب واقرأ على نفسك مثلنا "كل من عليها فان".

يؤكد سنائي الغزنوي في هذا المثنوي إننا عاجزون عن بلوغ مراتب الإنسانية العليا ما لم نصل في البداية إلى نهاية طريقنا في البحث عن أنفسنا، فالإنسان في حقيقة الأمر جاهل لنفسه، وجاهل لحقيقته، ولنا أن نتعمق في قراءة هذين البيتين :
_ولأننا لا نعرف حقيقتنا فنحن عاجزون عن معرفة أنفسنا (١٠٤)
_فوالله لو كنت تعرف نفسك لعلمت حقيقة باطنك (٢١٨)

وكأن سنائي الغزنوي يريد أن يقول من خلال هذا المثنوي أن الإنسان قد خلق طالبا للكمال، أو بالأحرى أن الله تعالى وضع في الإنسان غاية البحث عن الكمال، ثم افرد الكمال له وحده، وفي سبيل ذلك تحتم على البني آدم أن يظل طيلة حياته في بحث مستمر، وهو ليس بحثا عن مستحيل، ولكنه بحث يجنى منه فوائد كثيرة، لأن القيام به فقط يعد وحده نتيجة من النتائج الخالصة.
فكأننا بالغزنوي يسأل هنا : _ترى هل سيعرف الإنسان حقيقة نفسه من خلال البحث عن الكمال؟

_______________
إضافات :
_من هو سنائي الغزنوي؟ 
هو أبو المجد مجدود بن آدم سنائي الغزنوي المشهور بتخلص "حكيم سنائي"، عاش في القرن الخامس الهجري في بلاد فارس، ولد وتوفي في غزنة (جنوب شرق افغانستان)، (٤٦٧ – ٥٢٩ هجرية)، وقد كانت بداياته شاعرا مادحا للبلاط الغزنوي، ولكنه تحول فجأة للسخرية، ثم انتهى بالوعظ والتصوف، البعض يعتقد أنه اشعري والبعض الآخر يقول أنه شيعي، قضى بعض سنواته في سرخس وبلخ وهرات ونيشابور وخوارزم وخراسان، ثم إنه حج إلى مكة المكرمة، واستقر بعدها في بلخ، وقد ترك ارثا شعرياً ضخما من المثنويات والرباعيات، وتعد منظموته الشهيرة "حديقة الحقيقة" التي ألفها بواقع عشرة آلاف بيت أول منظومة صوفية في الأدب الفارسي. بالإضافة إلى منظومة "سير العباد إلى المعاد" التي بواقع سبعمئة بيت. ومثنويات أخرى كثيرة. 
تناول سنائي في شعره الأمور الدينية والدنيوية، وانتقد الأوضاع الاجتماعية السائدة في عصره، لم يتردد في قول الحقيقة، وطرح أفكاره بصراحة واضحة، وعارض في بعض أشعاره الحكام والسلاطين وانتقدهم، وقد تأثر جلال الدين الرومي وشيخه التبريزي كثيرا باشعار سنائي وافكاره.

_ما هو المثنوي؟ 
أو شعر الوزن العروضي، وهو فن شعري فارسي الأصل، برع به الشعراء الفرس، ثم عرفه العرب بعد ذلك، وهو ما يعني النظم المزدوج اي يتحد فيه شطرا البيت الواحد بالقافية، فلكل بيت قافية وليست هناك قافية موحدة للنظم كله، بحيث تكون المنظومة متحررة من قيود القافية فيسترسل الشاعر بسرد القصص والاساطير، وعرض الأفكار والآراء، واسداء النصح والمواعظ.

وقد عرف المثنوي في لغات عديدة غير الفارسية والعربية مثل الكردية، والتركية، والاوردية، 
ومن أشهر المثنويات المعروفة المثنوي المعنوي لجلال الدين الرومي وهو في ستة مجلدات، و يطلقون عليه قرآن اللغة الفارسية أو قرآن الصوفيون. 
معظم شعراء الفرس نظموا في المثنوي مثل فريد الدين العطار، عبد الرحمن الجامي، نظامي گنجوي، سنائي الغزنوي، خاقاني، وآخرین. 
وبقي هذا القالب من الشعر حيا حتى العصر الحديث، حيث عرف عنه بالفارسية بال "دو بيت" أي "البيتين" إذ طرأ عليه بعض التطور والاحتكاك بالثقافات الجديدة.
 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي