loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ثلاثة بروفايلات

breakLine

 

علي المجنوني || قاص وكاتب سعودي 
 


الكلمة التي كانت في الأصل تنهيدة

بدأ تاريخها منذ أن لم يكن هناك فرق بين الكلمة والشكل، أي قبل أن يبتكر الماشي على قدمين الكتابةَ. كانت معلقة على جدار كهف، رفقةَ ظباء وأنهار وأشجار صنوبر. مثل سِفر رباني، مثل الزبور. بالطبع كان رجل الكهف يتنهد أثناء رحلة الصيد، ولذلك كان يحتاج إليها. وهي لم تكن إلا قانعة، ففي رطوبة الكهف ورتابة الحياة داخله وخارجه وجدت نعيمها المقيم. ولكن عندما ازدرى ربّها الصيدَ والكهفَ ونزل إلى الوادي لم يعد يتنهد، ولهذا انقطعت صلته بها وبباقي الأشكال حينا من الدهر، حتى جاء حفيده، الأكثر فضولا وتعجرفا وإسرافا، الذي وفر لكل معنى شكلا ولكل شكل كلمة، ما يحتاج منها وما لا يحتاج. حارَ الحفيد في الإتيان ببديل للكلمة التي في الأصل تنهيدة، فانتزعها عبثا من جدار الكهف ثم زمرها مع قوافل لا نهائية من الكلمات. ومذّاك لا تزال الكلمة التي كانت في الأصل تنهيدةً تنتظر سيلا كبيرا تؤمن أنه سيمحو الكتابة وأنها ستعود بفضله إلى رفقة الظباء والأنهار والصنوبر على جدار كهف. 
 

الكلمة التي لا يروق لها معناها
 

الكلمة التي لا يروق لها معناها كانت كذلك منذ البداية، لكنها اعتنقت إيمانا أحمق اسمه الفرصة، وأيّ إيمانٍ لا يخلو من حماقة؟ لم يكن بوسع منطقها ولا عاطفتها أن يعطفاها على المعنى الغريب عليها غرابة الصوف على ظهر ذئب. بمرور الوقت شكّت الكلمة التي لا يروق لها معناها (شكّت، لأن الكلمة بدأت تتخلى عن الإيمان)، شكّت أن الإنسان عندما جلس تحت شجرته في يوم غير ذي ريح وبسط بين يديه قصاصات الكلمات والمعاني وغراءً استحلبه من لحاء الشجرة، أخطأ في إلصاقها بمعناها. بناء على هذا التصور، ما هي ومعناها إلا خلقٌ أعمى. وبناء على هذا التصور أيضا، ألفت أمامها خيارين (والخيارات خدعة قدرية سخيفة)؛ فإما أن تختفي هي وإما أن يختفي معناها. وهكذا فكرت فعليا بوضع خطط لانسحاب أحدهما تدريجيا من صفحات الجرائد والمجلات وشاشات التلفزيون وألسن الناس. بيد أنها واجهت معضلة وجودية صمّاء، إذ إن اختفاءها سيبتره عجزُ الإنسان عن أن يستبدل بالمختفية غيرها أو يأتي بمثلها. كيف بالله سيعبّر المستأجر عن وعده بأن يدفع الإيجار حالما يجد المال؟ بالطبع سيستعيد مستنجدا -وقبل أن يجف حلقه- تلك الكلمة الفارّة وهو واقف أمام ربّه الأرضي الذي يزوره كل شهر. كما أن اختفاء معناها سيؤدي بلا شك (شك؟) إلى مشكلة مشابهة. كيف بالله سيفهم بائع التذاكر الكلمة منزوعة المعنى حين يقولها الموظف العجول صباحا؟ بالطبع سيكون رأسه أجوف مثلما كان رأس أبيه وجدّه وسيحار أمام كلمة بلا معنى، وستفوت الموظفَ العجولَ الرحلةُ ثم سيفقد وظيفته وستهجره حسناؤه. هكذا، ولأن القناعة ليست شرطا للوجود، لا تزال الكلمة كذلك، منذ أن ألصقها الإنسان بمعنى لا يروق لها. 
 

الكلمة التي تدرس في الظهيرة احتمالات عبورها النهر
 

قطعت الكلمة، التي اخترعها بائع متجول يستريح، مسافات كبيرة قبل أن تتوقف أمام النهر. حملتها الألسن والآذان، من دون ألاّ يضيف إليها كلّ من نطقها إضافته الخاصة والدقيقة. هذه امرأة بصوت نحاسي وذاك رجل بحنجرة متخشبة. هذه فتاة بضحكة مجلجلة وذاك فتى بنبرة حماسية. هذه زوجة غاضبة وذاك عامل كسول. كلهم تلقف الكلمة التي اخترعها بائع متجول يستريح، وكلهم صبغ عليها صبغته. والحق أن الكلمة كانت قانعة بالتحولات الطفيفة التي تمر بها وهي تقطع كل تلك المسافات. إلا أن الظهيرة لم تكن وقتا مناسبا لعبور نهر. لأن الولد الذي أخذ صديقته من المدرسة إلى الوادي المحاذي للنهر ألقى الكلمة في أذن صديقته التي صارت، بمجرد أن أُلقيت الكلمة في أذنها، حبيبته. لكن الكلمة فقدت طاقتها التي كانت ستمكّنها من عبور النهر لو لم يرمِها الولد في أذن حبيبته التي كانت صديقته. هكذا تقف على ضفة الوادي المواجهة للنهر الكلمة التي اخترعها بائع متجول يستريح. تدرس تحت شمس الظهيرة، منذ أن نكص الحبيبان، احتمالات عبورها النهر التي لا بدّ أن نقول إنها، عطفا على المعطيات المتاحة، ضئيلة.