يعنى بالسرد القصصي والروائي
نضال البدري
قاصة | عراقية
شيئاً فشيئاً تضاءل حضورها في ذهنه، وحين كنت أسأله عنها، يقول ذهبت دون رجعة. كانت السعادة تغمرني، وأشعر بأنني المرأة الوحيدة في حياته. صوته العميق الهادئ ينساب كل ليلة ليصل إلى أذنيّ، ويريح أعصابي ويبدّد خوفي من أن أفقده، وبخاصة، حين يقول لي أودّ أن أتحدّث معك عن كلّ شيء، حتى عن تلك الأشياء التي أخجل منها بيني وبين نفسي. كان يقدّم إليّ تقريراً يومياً، من وقت إفطاره لغاية عودته من عمله. لم نكن نعلم كيف كان الوقت يمضي، كل الذي كنت أعرفه أننا كنا ننام على أصوات بعضنا بعضاً، وكنت أرى في عينيه الصدق والنبل، وفي لمسات يديه العاطفة الحقيقية التي لا تعرف الزيف أبداً.
حياة كاملة، وعالم جميل، وحلم لا أودّ أن أصحو منه، لكنه سرعان ما تصدّع حين أخبرني والابتسامة ترقصُ على شفتيه، وهي الآن نادمة وتتمنى أن تعود إليه! انتابني شعور مبهم وتساؤلات عديدة، هل سيرقص على جراحها؟ أم يتجاوز عن كل أخطائها؟ كان يتحدث عنها منتشينا وهو ينفث دخان سيجارته إلى الأعلى ، حركة كان يقوم بها حين يكون سعيداً، كان يشعّ من عينيه بريقٌ لامع كمن انتصر في معركة. قائلا: كسرت شوكتها، نظرت إليه ولم أعلق بشيء، وحاولت التغاضي والتضامن معه كذباً. في تلك الليلة لم يتصل بي، فازداد قلقي، كان عليّ أن أبادر أنا بالاتصال به، وهذا ما قمت به حقاً.
ردّ عليّ بصوت مرتفع: اتركيني أودّ أن أكون وحدي، لا تتصلي بي اليوم. كلماته كانت ثقيلة، يبدو أن الخمرة قد طافت برأسه، لكنه مازال جريئاً معتداً بنفسه وبكامل وعيه، أنهى اتصاله بسرعة مغلقاً الهاتف. اختار أن ينام في تلك الليلة على صوت ذكرياتها الذي طغى على صوتي ووجودي معه. فكّرت أن أعلّق أحلامي معه بعد خيبة الأمل تلك، وأنصت إلى صوت العقل (لغة العقل جميلة، لكنها باهتة من دون لون). كان هناك صوت يتردد داخلي، ويقول لي بأني لستُ سوى نزوة في حياته، وأنه سيعود إليها يوماً ما. فجأة وجّه إليّ دعوة بالرغم مما حصل يوم أمس، أثارت استغرابي، كان من الصعب عليّ جداً رفض دعوته أو اللقاء به، شعرت وكأني في سباق مع الوقت كي أكون معه وبقربه. التقيت به بعد تلك الليلة، كان بمزاج مختلف تماماً، وكأنه لا يتذكّر شيئاً مما حصل، اقترب مني مبتسماً، ومدّ أصابع يده تبحث عن يدي، وأمسكها ثم أطبق عليها بكلتا يديه، استكانت يدي بين كفيه الدافئتين كما يستكين الوليد على صدر أمّه، لحظة استكانة قصيرة، غافلت فيها عقلي، فتسربت مني عاطفتي تريد أن تمارس حقها في أن تعيش وأن تهدأ، وهي تضع رأسها على صدره العريض. لم تمضِ سوى لحظات حتى تنبه بعدها عقلي وجمحت عاطفتي، جذبت يدي من كفيه الدافئتين فشعرت بالبرد وكأنها تعرت في برد ليل مظلم، إحساسي بالخوف قادني إلى التمرّد، التمرّد الذي يشعر به العاجز ليضفي على نفسه قوة كاذبة، وجدت نفسي من حيث لا أدري أحدثه بغضب، قلت له: ماذا تريد مني؟ قال بلطف: أحبّك. قلت له: أنسيت أنك ما زلت متزوجاً بها؟ لن يستمرّ هذا الحبّ بيننا، وستعود إليها يوماً ما، لن نخدع أنفسنا أكثر!! تراجع واعتدل في جلسته، قائلاً: أنا أحبّك، ولم أكذب عليكِ أبداً. صمت صمتاً طويلاً، ثم قال: لك حرية القرار بشأن علاقتنا.
لم تكن حرية قرار منحها إلي، بل طوقاً لفّ به عنقي وخنق صوتي وسلبني سعادتي. بعد مضي عدة أيام من الصراع بدأت أضعف وأضعف حتى استسلمت، وأيقنت أن العاطفة انتصرت على العقل، تقبّلت الخسارة من دون خجل، بل كانت أروع لحظة في حياتي، حملت حقيبة يدي وهرعت إليه حتى سخرت مني الطرقات، وأكملت طريقي إليه، قابلته ورحت أفتش في أعماق عينيه، وددت لو أرتمي بين ذراعه، سألته: ألست مشتاقاً مثلي؟
قال: لا، ثم أكمل: لأن عقلي هو قلبي، وقلبي هو عقلي. شعرت بأنه أقوى مني، نظر إليّ وكأنه يودّ أن يحتويني بكل كيانه، اعتدل في جلسته، خاطبني وكأني بنت صغيرة بين يديه، فقال لي: قبل أي شيء، سأسألك هل تحبينني؟
قلت: نعم، أحبك. ابتسم ابتسامة عريضة، ثم ضحك بصوت مرتفع وهو ينظر في عينيّ بحنان كبير، ثم قال: هل كان أمراً صعباً؟ أجبته وأنا أشيح بنظري بعيداً عن عينيه كي لا يكتشف كذبي: أبداً لم يكن صعبا.