loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

أنفاس ثقيلة

breakLine

 

شيماء زايد / قاصة مصرية


                    
إنه الصباح أخيرًا، كل الصباحات تجبرك أن تنتعل قلبك وعقلك، وتركض في متاهات المهمات الثقيلة كبهلوان، تحاول ألا تسقط كرات حواسك الخمس بينما تجويفا عينيك المنتزعتين تداهنان الشمس كي تشرق. الليلة التي انقضت دون نوم أو صحو، لم تكن ككل الليالي المكررة حدّ الملل ها هنا داخل الدار.
وهي منذ أن عبرت البوابة الرئيسية تجرَّدَت من رغباتها، وتطلعاتها، وأحلامها القديمة. كانت تعلم في قرارة نفسها أنها لا تستحق الحلم ولا الحب. ظلت تراقبه على مسافة، لا تجرؤ على المحاولة. وهو لم يرفضها ولم يقبلها؛ لأنه ببساطة لم يرها أبدًا.
طيف بقي أو مر، شفافة في حيز لا يسعها على رحابته، ولا تستطيع دفع ضرائبه الباهظة؛ لذا نفدت من ذلك الثقب حيث مثواها الآمن..
وجدت في أحاديث الكبار صوت أبيها الراحل، وجمعت من ابتسامات النزيلات باقة أمومة لم تستنشق عبيرها يومًا. لذا لم تتراجع عن فكرة التطوع داخل الدار. تحصل على الطعام، والسكن، والونس، ومكافأة رمزية تنفقها على النزلاء.
في الخارج تركت أُمًّا هجرتها ورحلت دون أن تكترث، وأَبًا يركض خلف مشروعاته في كل البلاد، بينما ألقى بها للمربيات يعاملنها كوظيفة. وأخيرًا عَمًّا يجني كل ثمار الأب ويسطو على ثرواته، وحبًا صامتًا بلا أطرافٍ حتى.
هي اكتفت بانتظار الفارس الذي يحملها فوق حصانه الأشهب، أو سيارته الشبابية الحمراء؟ لا يهم.. تقف خلف ستائر شرفتها تتناول ملامحه بنهم تفسده مرارة الخوف، وتحتسي أوجاعها على مهل.. ها هي على مفترق الطرق بلا بيت.. أهل.. مال، وبلا مشاعر أيضًا..
بضعة صور قديمة، وبقايا ملامح مموهة من الماضي البعيد، وروح مكسورة ما تبقى لها داخل حقيبة زاد الرحلة.
كل الأيام المتشابهات داخل دار العجزة كانت بمثابة برنامج للتعافي. قليل من النوم، كثير من العمل، تلبِّى طلبات النزلاء، تستمع إلى شكواهم من آلام المفاصل، جحود الأبناء، وحكايات الصبا الذي ولَّى سريعًا.
تقاوم كل مرايا العمر كي لا تستطلع ملامحها المعجونة بالحزن والمخبوزة بالألم، تراوغ الماضي وتداهن الحاضر.
ربما أرادت أن تحجز لنفسها مكانًا ها هنا قبل أن تأتي إليه دون إرادتها، ككل الأشياء التي أجبرت عليها من قبل.
وأعادت اكتشاف روحها ومدى قدرتها على الدعم والمواساة، قدمت مخزون حنانها على موائد النهار، والليل سكين بارد يجز رقبة الذكريات، فيأتيها النوم متأخرًا كقوات الشرطة في الأفلام القديمة، تلك الأفلام التي صحبتها ما قبل هوجة الألوان والشاشات المسطحة، وغزو وسائل التواصل الاجتماعي، تذكرها صور المفقودين المنشورة في الفضاء الإلكتروني أن هناك أُمًّا رحلت دون التفاتة. فما جدوى اجترار الخذلان بالبحث عمن تركك بإرادته.
تعتصرها الرغبة في إدراج صورتها ذات الضفائر والشرائط الحمراء، وتختنق رغبتها بقناعة الهوان.
اليوم السابق باغتها بلطمة في القلب، لم تكن تدرك أنها قد تجد أمها على حين غرة أمامها وجهًا لوجه. وجه لم تألفه، ولم تتفقد ملامحه التي لم تعرفها يومًا بعدما أخفى أبوها كل الصور. لم ترتم داخل حضنها الذي لم تذقه، لم تسبَّها أو تبصق عليها مرارة الهجر. كانت تتقنفذ داخل جسدها مشهرة أشواك الحماية، بينما تقود النزيلة الجديدة إلى غرفتها بعيون جامدة وصوت مرتجف.
السيدة التي تحمل أنفًا معقوفًا شكرتها. أخبرتها عن ابنةٍ تشبهها حال بينهما أبوها بوشاية من أخيه. تترقرق دمعة داخل عينيها تطويها بشبه ابتسامة داخل تجاعيد الوجه.
لم تربِّت عليها. لم تُقَبِّل رأسها. لم تفعل أي شيء سوى الهروب بعيدًا جدًّا لآخر نقطة ما قبل السور. بالكاد تحاول السيطرة على أنفاسها المتهدجة ورعشة الأطراف. كم من الوقت مضى ليأتي الليل؟ كم من الصبر يلزم لتبصر النهار؟ وكم من الدمع يطفئ نيران  وجعها المتأججة؟
كل الأبواب مغلقة، وما خلفها تنبعث أنفاس ثقيلة. تتمازج مع دقات ساعة الحائط، حفيف أوراق الشجر بالحديقة، مواء القطط المتصارعة وخطواتها المضطربة داخل الأروقة العارية. يحاصرها فزع المعزوفة. تتحسس أناملها باب غرفة أمها وتتلصص أذناها على صوت ارتعاشات الشهيق والزفير، تتورط كل الحواس في محاولة اصطياد طرف الخيط..
إنه الصباح أخيرًا، والحقيقة مخطوطة داخل الأوراق الرسمية، وملف النزيلة بين يديها المضطربتين، وأمام عينيها الملتاعتين. تطالع الاسم لينهار بابا عينيها المؤصدتين وينهمر الدمع.
الاسم الثلاثي يبدد هاجس المساء، فالسيدة تحمل اسمًا مغايرًا، ووثائق طبية، وأنفًا يشبهها.
هرولت نحو غرفتها لتنهار بين يديها وتبكي كما لم تبك، والعجوز تمسد ظهرها وتلتقط حبات الدمع بكفيها، بينما تعاود طرح قصة الأمس نفسها.. السيدة التي تعاني من الزهايمر اعتادت أن تخبرها عن ابنتها صباح مساء.. تصحبها في رحلة يومية عبر متاهات العمر ودهاليز المشاعر، تكف عن نسج الحكي فجأة لتنسل خيوط الأسئلة:
- من أنت؟
- أين أنا؟
- وأين هي
- ومتى تسلل كل هذا الوقت؟
وهي أجادت رتق الأحاديث.. الإنصات.. الإجابة.. واستساغت الحكاية.