loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

إلى عبدالله جاسم

breakLine

 


سلام إبراهيم | قاص وروائي عراقي

 

مع غروب الشمس، غادرت بيت طفولتي في الحي العصري متوجهاً إلى مركز المدينة، وهذي عادة لازمتني طوال حياتي تقريباً حيث أقضى نهاري أيام العطل حابساً نفسي في غرفتنا المشتركة أنا وأخي الشهيد كفاح، أقرأ منذ أستيقاظي صباحاً وحتى نزول الشمس، عشقت ذلك المشهد الساحر، فالشمس تتسع دائرتها وتهبط في أفق الشارع المؤدي إلى المركز بحيث تتساوى أعمار الناس في تلك اللحظة الباهرة التي لا تستمر سوى دقائق،  أحرص في كل زيارة على رؤية هذا المشهد وكأنني أعود صبيا إلى تلك الأيام والمكان الذي فارقته مجبراً في دروب السياسة والنضال الذي أدي بي إلى التشرد في معسكرات اللجوء في إيران وتركيا وبلدان أخرى قبل أن استقر في الدنمارك وانتظر خمسة وعشرين عاما حتى يحتل الأمريكان بلدي لأستطيع زيارته ورؤية أهلي وأمكنة مدينتي وطفولتي وجيراني، كنت أغط بقرص الشمس الأحمر الهابط على أفق الشارع خدرانا مستمتعاً في طقس نشوة يخصني، كان القادم من مركز المدينة يراني بوضوح بعكسي تماماً، وفيما كنت غارقاً في الخضم المخدر ذاك، حضنتي رجل طويل القامة وراح يشدني بقوة وشغف، ويقبلني قبلات متلاحقة أيقظتني من سرحاني وعالمي ذاك، ظاهرت الشمس وحدقته كان جاري "عبدالله جاسم"   الملامح نفسها، عينان واسعتان ذكيتنا، والبسمة التي لا تفارق القسمات، الرشاقة نفسها، كان يعيد العناق معتذرا لأنه لم يزرني في بيت أهلي بزيارتي الأولى ٢٠٠٤ قائلا:
- كان أزدحام الوادم انقلبت عليك، وأجلت يومية أقول باجر وفجأة قالوا سافر!
وعبدالله يكبرني بخمسة أعوام، تخرجنا من نفس إعدادية زراعة الديوانية وكنا من رياضيها البارزين، كان من أبطال ألعاب القوى، يحرز طوال سنوات الدراسة المركز الأول في سباق ال ٤٠٠ متر، وواصل التدريب والجهد حتى أحرز بطولة العراق بهذه المسافة، كان يجمعنا الهم الرياضي وعلاقة الجار الحارة ، لكن أخاه الصغير محمد كان شيوعيا وصديق أخي الشهيد كفاح، التقيته في الزيارة الأولى لكنه مات بغتة في فراشه في العام التالي أي ٢٠٠٥، 
لم يترك يديّ وكيس التسوق الممتلئ وضعه جنبه على الرصيف، كان يحلفني بروح أخوينا الصغيرين كي أعود معه إلى بيته في العصري لاتناول العشاء قائلا:
-سلومي راح تسعد روحي صدق إذا تجي وياي للبيت!
أعتذرت بشدة كوني مرتبطاً بموعدٍ مع صديقي الشاعر "علي الشباني" المنتظر في كازينو "الراية"
ولما وجدني مصراً ترجاني كي اسمع مصيبته وما جرى له، فوقفت منصتاً لحكاية غربته التي كادت أن تجننه؛
- خوي سلومي تعرف اشصار بيّ، أهل الولايه كلها شالت من "الجديدة" و"الفاضيلة" و "العصري" وبنت بيوت بأم الخيل!
(أم الخيل تبعد عن العصري ٥ كيلو متر)
- خويه شلت من العصري واش صار بيّ، حسيت بنفسي غريب، أوقف العصر بباب البيت ولا أحد أعرفه وأقدر أحكي وياه
سكت قليلا قبل أن يقول منفعلا، عبدالله من أهدأ الناس الذين قابلتهم في حياتي
- بعدين سلومي أش أسولف ويه واحد ما أعرفه
ما قدرت تمرضت سلومي واجيت أنجن
سنة ما طولت بعت البيت ورجعت لبيت أهلي بالعصري!
وختم كلامه قبل أن يعانقني ويذهب
- سلومي ما قدرت غربة غربة غربة رجعت لناسي وأحبابي
تمالكت نفسي بعناء حابساً ضحكة مجنونة هبت من أعماقي إلى أن استدار وأبتعد 
فهدرت بها من الأعماق   
لا على عبدالله الذي شعر بالغربة لأنه أبتعد بعيشه عن محلة طفولته العصري بل على حالي وبؤسه  وضياع نصف عمري بعيدا عن أمكنة طفولتي وأحبتي
حسدت عبدالله وشدة إلتصاقه بالمكان
وتمنيت لو كنت مثله أمنية مستحيلة
لو كانت لغيرت قدري.