loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

تخاطر

breakLine


                                   
مهدي علي ازبين || قاص عراقي

 

  تسوّرني ذراعان غادرتهما العافية، عبّأ عظامهما جلدٌ متغضّن، تتشابك أصابع معروقة تضمّني إلى أضلاع نافرة، تتلاهث، يتشبّث باطن القدمين ببقايا الكرب الناتئة من جذعي، يتزاحف الجسد المأزوم في دوّامة الارتعاش، تاركًا الأرض في محاولة اصطياد النجوم، فالليل حطّ بعد نهار متبلّد القسمات.

  أنمو لصق أمّي وهي ترشف نسغها من أرض البستان، تمدّني بخلاصة الحضور، صغير يفارق حضن أمّه، يرافق أباه، يقرؤني بعينين مفكرتين، سعفاتي تتفرّع خجلى، تتطاول مندفعة يداعبها الهواء، الأيادي تلوّح لأمّي بمراوح الحنوّ، تلقي عليها أساور العناية، فتورق ظلالاً ملوّنة، تطلق بشائر رطب/ ذهب.        

بساعدين من محبّة يعتنق الجذع؛ فيرسم الوله أنغامًا.  

 - إنها.. أنتَ.

تشعّ صفحة وجهه، يشير إليّ:

 - ستغدو نخلتك.

 تتراقص عيناه، يذرّ عليّ البراءة، يمسّدني بأنامل مدافة بالطراوة، تداعبه خوصة نزقة، تشكّه؛ تندّ عنه:    

 - آي.

يكزّ على ومضة الألم بأسنانه، يرشّني بندى الملامة، وأنا أتماوت حياءً.

  نسلك خطوط عمرينا، نجتاز سلالم الفصول، تدغدغني جذور، كبرتُ، أزاحم أمّي على غذائها، يتقاطع شعاع فجر مع بريق آلات حادّة، أتحرّر، تحمل بدني الطري سيارة، تنساب.

  يودّعني أصلي سيّد الشجر، يلوّح لي، يتململ، يتألم في سرير الفرح، البنايات تراوح في مكانها، تغيب عني، تخفيها أسرار الشوارع وعوالمها، يزفّني إلى حديقة، يغرسني سيّدة لداره وسط بيوت متراصّة.

  أبسق بلبوس الثقة، تتمطّى، تتمدّد مساندي/ جذوري، تفتح أنفاقًا، تستأذن الأرض، تمتصّ رحيقها، أُحيل ركونها حركةً ونضارة.

  أزهو، يلتمع فرعي بشمع صقيل، يورق ظلّي، يتناغم مع ترانيم الطيور، وهي تؤثّث أعشاشها بألوان الغناء، أبوح بعذوق تمر/ عسل، تتهدّل ثريّات، تلصف، تلهج بلغة النور، يرمقني، يتفحصني، يناغيني حين يجني الثمر بكفّ مزنّر بالحنان.

 النواح يدهم الدار، يتقاطع الزمان مع المكان، تهجر الحياة جسد الأب عند نخلته/ أمّي:

 - مات بسببها!!

 جلبوه وخطوط دم جاف من زاوية فمه، تركت خارطة على جانب عنقه.

 - طالتها أيدٍ وقحة زاملت الظلام، كتمت أنفاسها، إنها جزء من كيانه.

 يكتمني من ناظريه، يواسيني:

 - إنكما أقرب المخلوقات إلينا.

  يدقّق في ابنتي، أقرأ في صحيفة ملامحه: "إنها نضجت، سأنقلها لتبدأ حياة جديدة، تختال في مكان آخر، سأحافظ عليك".

  يدبّ الآن على نتوءاتي وكلّ أشلائه تختضّ، آلمني حدّ قاطع، شاهرًا سيف المسافات مع ابنتي/ فسيلتي الوحيدة، توزعت آلام الانفصال في متاهات الألم والاغتراب، عزائي أنها ستبثّ فنارات في واحات الجمال، أتسامق فوق السطوح، يتضاءل، يتضاءلون، يتكاثرون، يكبرون تجلّلهم ملابس ملوّنة، أمواج من ليل تغرق النسوة.

  أسس الأبنية تنصب حواجز، تتعطّل مجسّات جذوري، تنقطع حصّتي من الغذاء، تمتقع أوراقي، يصيبني اصفرار، أتوقّف عن درّ العسل، العثّ يعبثّ، يشقّ أنفاقًا في أنسجتي، أسراب النمل تلغ في بقايا روحي، يغزوني الجفاف، يحتضر الربيع، يحاصر قمّتي النامية لون الخريف، الطيور تهجر أوكارها، فتسكنها أشباح الغربة، يتأمّلني من قوس الاستغراب، يمسّد بقايا الثلج في رأسه:

 - إنك تسلّمين للجفاف.

  تتضايق الجدران على ضغط الأجساد والحاجات المتراكمة، تقرر الألسن الطويلة الانفتاح على فضاءات أخرى لا زرع فيها، صوته ضائع لا يجيد العزف على أوتار التفاهم، تلفظ الغرف محتوياتها على ظهور سيارات الحمل، تتعرّى الجدران لقادم جديد، ينزوي، يرنو إليّ بعينين انطفأ النور فيهما:

 - دعوني مع نخلتي فقط هذه الليلة.

  وحيدًا يلفّه خواء الدار، يزوغ بصره، يرقب بقايا سعفي المخنوق بلون التراب، يتذكّرها، يتأمّلها مظلّات ملوّنة تلوي أذرع الصيف الملتهبة، يرتقي قمتي مخلّفًا الأرض/ النهار، المصابيح تتلصّص بعيون أعشاها الليل/ الخريف.

   يتراكض نبضه وصافرات رئتيه تنشز، يهرب الشهيق من الزفير، يلتصق بي معتمدًا على آخر ذرّات الهواء، يتنازع مستقرًّا بأصابع توطّن القلق فيها، يتلمّس عذقًا أتلفه الزمن، يتفتّت، يتساقط هباءً، يشبك كفّيه، ينتفض بندول قلبه، يعلن النهاية بمطارق متباطئة، يتردّد رجعها بين سعفاتي وجدران البيوت شواظّ تخترق الأسماع.  

  يفتح عينين مزمومتين على دمع شفيف، يغمضهما في مهد السكينة، أطرافه/ أغصان تتخشّب متشابكة، كيف ينزل؟ إنه عنكبوت في شرنقة العدم.

  أتمايل برغم سكون الأنواء.. جذوري تهرب منّي، تخونني، التوازن خدعة توسّدت السنين، أنا معلقة في الفضاء لا أتحمّل وزني، تميد بي الأرض، تتأرجح المصابيح المتناثرة، والأبنية تتطوّح سكرى، يترك جذعي الأرض؛ ينخرق الفضاء، تتصاعد البيوت والجدران، يستقبلني بلاط الممرّ الطويل، يتهشّم الجريد على حوافّ صرخة، يتصاعد غبار النسيان.

  يرسل نظرات صافية. تنساب أوصاله تحتي، يستقرّ رأسه على كرب متداخل، ينام تحت إبطي، تشعّ على محياّه المتغضّن ابتسامةُ رضيع.