loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

حفلة صباحية لاعتزال فتاة ليل

breakLine

 

 

تحسين علي – كاتب عراقي

 

 

في المقهى القديمة الذي تجاور محلّاتِ الإعلانات التجارية الكاسدة، مرَّ أحدُ الثمالى وهوَ يدندن بأغنية لياس خضر. كان الوقتُ صباحاً، وصاحبُ المقهى السوداني، بشير، يلعنُ كعادتهِ بعد أن وجدَ آثارَ قيءٍ على حافّةِ الرصيف، تمتدُّ في خيطٍ أصفرَ طويل حتّى عتبةِ البوّابةِ تماماً. كان ذلكَ فألاً سيئاً في نظره، برغم أنهُ عاشَ في البتاوين ما يكفي من الزمن لكي يفتح محلاً لبيع الفأل السيء. لم يجد بشير أحداً يؤنبه أو يعاقبه، غير ابنه نصف العراقي الذي سمّاه سؤدد، ظاناً بهذا أنَّهُ سوفَ يتّقي، ويقيه، الكوارث التي صارت تتهاطل عليه مذ وطئت قدماه أرض السواد. وقبل أن يمارس بشير هوايته، انبرى ذلك الثملُ المدندن، ودخل إلى المقهى وهوَ ما يزال في المقطع الثاني من الأغنية: (يا حلم، يا مامش بمامش، طبع گلبي، من طباعك ذهب). الأمر الذي كان كافياً لإلهاب سخط بشير، فصرخ في وجه الرجل: عليك اللعنة، أتحتسي الخمرَ في الصباح! ألا بيتَ وزوجة لك؟ لم يبدُ بأنَّ الرجل كانَ في مزاجٍ للعراك مع السودانيِّ الغاضب. فأجاب بغرابة، ودونَ اكتراث: جئني بكوبِ شاي وسأخبرك بقصّة ستعجبك! تأثّر بشير أول الأمر باسترخاء هذا الرجل، الذي على غير عادةِ الذينَ يثملونَ في هذا الوقتِ من النهار، كانَ أنيقاً، ومحترماً، وفيهِ ما لا يخفى من علاماتِ الدّعةِ والاتزان. جلسَ بشير إلى جانبه وأشار لسؤدد بأن يجلب كوبي شاي. فقال الرجل بعد أن ارتشفَ رشفةً كبيرةً من القدح الزجاجي بانتشاء، وكأنه ما يزال يعاقر الكحول: هذا الصباح  كنتُ متّجها إلى متجري. ولكنّني رأيت فتاةً جميلةً، وجهها مزدانٌ ببسمةٍ عريضة، تسيرُ إلى داخل مكان متجهّم، لا يثير إلا الريبة. شعورٌ أبويٌ جعلني أتبع تلك الفتاة، أو لربما رأيتُ أن أكتشفَ سرَّ سيرها وحيدةً في هذه الأزقّة المجهولةِ بالنسبة لي. لكن، وحدها الصدفة أدخلتني إلى ذلك المكان؛ إذ ما إن عرفتُ بأنه ملهىً ليلي، حتّى حاولتُ جاهدًا الخروج من الطريقِ الذي دخلت منه، إلا أنَّ أصواتَ ضحكات، وموسيقي تشبه موسيقى أعياد الميلاد، وبلبلةً وحشيةً غيرَ مفهومة، وهمهماتٍ أنثويةً فضائحية، شدّتني عنوةً إلى الداخل. كنت مثل الهنديِّ الذي دخل وسط حفلة لرعاة البقر. جلست في ركنٍ قصي أراقبُ توافدَ الفتيات، اللواتي وصلَ عددهنَّ قبل أن أتوقّفَ عن العد إلى العشرين. أثارني أنه لم يكُن بينهن رجلٌ واحد، وأنَّ والثرّيا الكروية في السقف مطفأة وكأنها في إجازة. وبقصدٍ أو من دونِ قصد، تجاهلنني وكأنيَ الفائز في يانصيب الصُدف. وفي رغبة باستكشاف المكان، بدأتُ في قراءةِ أسماء القناني التي احتشدت على رفٍ خشبيٍ متين: هينيسي، جراي جوس، جاك دانيالز، سميرنوف، بلو ماري… مرّت دقائق منَ اللغط الطفوليِّ خفيفةً، حتّى جاءت امرأة سمينة بكعكة كبيرة وعليها شموع ملوّنة، ووضعتها على طاولةٍ تتوّسط الصالة. صرتُ حينذاك قريباً بما يكفي لطردي من المكان، إلا أنَّ الفتاةَ السمينةَ دعتني للاقتراب، وكأنها عرفت نيّتي، أو لربما ظنّت بأني قريبٌ لإحدى الفتيات. قالت: أنا بطّة، وهذه نورس، وتلكَ سارة، وتلكمَّ اللواتي بدأنَ في اكتراعِ العرق مبكراً، سومه، ونور، وهناكَ ايضاً الفتاة البلهاء الجديدة التي لا أعرف اسمها. لم أفهم كيف أعرّف نفسي لهذه السيدة التي وضعت على زندها الغليظ وشماً غيرَ متقن الصنع لعينٍ دامعة. قلت لها ولساني يتبلبل في فمي:(أنا…) ما أراحني في تلك اللحظة، أنها لم تبدُ مهتمةً بمعرفتي منَ الأساس. كانت الأمور تسير بطرافة وعفوية، وكأنها حفلة عادية لصديقات. اقتربت من الطاولة الكبيرة، بعدما انتشلني الفضولُ بقوةٍ من تلابيب الحياء. كانت بطّة الخبيرة- كما يبدو- منشغلةٌ بفتح قنينة العرق، وسكب كؤوسٍ لؤلؤيةٍ متعددةٍ منه. وعلى عدد الحضور، فرّغت القنينة في أول دورة. أحاطت الفتيات بالطاولة كلٌّ تمسكُ كأسها بيدها، وقدّمت لي سومة، كأساً، لم يكن هناك من شيء يجعلني أرفضه. شربتُ كأسي على مضض، وعقلي يضرب أخماساً بأسداس: يا تُرى ماذا يحصل هنا؟ بعدَ الكأس الثالثة بدأت أرى الأشياء بوضوح؛ فأنا الآن وسطَ جمعٍ جامحٍ من الفتيات الثملات. تعالت الضحكات وبدأت أحاديث تدبُّ بينهنَّ حول الرغبة بالاعتزال!

فصاحت بطّة مقهقةً: هل تتذكّرنَ جبار الأعور؟

قالت سومة: اللعينُ المفلس، ليته كان مشلولاً!

وقالت نور: هو ليس بأفضل من محمود النائم الذي كان يبيت كل ليلةٍ في الشارع! من الجميل أن تتزوج أحدنا مرّة ولو على سبيل التغيير- قالت فتاة من بعيد. كنتُ آنذاك قد فهمت أنها حفلة أقيمت على شرف فتاة وجدت من يحبها حقاً. عرفتها من خلال التفاف الفتيات حولها طوال الوقت الذي قضيته أراقب الأحداث. كانت تبدو كالعروس: متزّينة، جميلة، إلا أنَّ هالةً سوداءَ حول عينيها لم تستطع مساحيق التجميل من محوها أظهرتها بشكلها الحقيقيِّ الحزين. لقد كانت بعمر ابنتي لكنَّ الحياة التي عاشتها هنا، حوّلتها إلى عجوز. تلكَ أشياءٌ تحصلُ في هذا العالم، ولا يفطنُ أحدٌ إليها. (فماذا لو؟)

السؤال الذي طرحته على نفسي كل ثانية تقريباً. أفقتُ من غيبتي في عالم (اللو) على الرنينِ المعدني البهيج للذهب، وشاهدت الفتيات العشرين ينتزعنَ من اياديهنَ ما يستطعنَ التخليَّ عنه من مصوغات. أهدت بطّة الفتاةَ قلادة، وأخرى خاتماً، وثالثة وضعت بيدها، قرطاً كلاسيكياً قديماً يبدو وكأنها ورثته عن أمها، ولم تجد الفرصة لكي ترتديه في مناسبة سعيدة. وهنا بكى الجميع: لقد كانت لحظة سعادة غريبة في مكانها، وزمانها وصدفة جادَ عليَّ بها هذا الصباح.

كان بشير السوداني شاردًا حينما انتهت قصّة الرجل، والشاي الذي أمامه صار بارداً، والعالم الصاخب حوله يمتصُّ كل كل سكون العالم. نهض الرجل، وقد فارقته السكينة، وخرجَ من المقهى نحو الشارع النحاسي الساخن.