loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

رقصات

breakLine

 

عيد الناصر || قاص سعودي

 

قال صاحبي: حياتنا أشبه ما تكون بكرة تراقصها أمواج البحر، تمزج بين علاقتنا بأنفسنا وأهلنا وزملائنا وأعدائنا، وفجأة يتسرب الخيال الى ذلك المزيج كما تتسرب المياه من شقوق الجدران وتختلط الأمور لتقذف بنا الى البعيد، سنوات الى الوراء في لمح البصر: سنوات الطفولة، سنوات الصبا والمراهقة .. 
وتابع حديثه، حين نتعامل مع الفنون مثل السرد والسينما والمسرح فهي لا تقل في قدرتها العجيبة على مزج وخلط الأحداث والأزمان وخلق الرقصات المتجددة وهي تداعب تفاصيل حياتنا، واقعنا، ذكرياتنا، أحلامنا، احباطاتنا بصيغة ربما تفوق جمالياتها عما يفعله بنا واقع الحياة من ذكريات وخيالات وأحلام وأماني.

ما الذي حدث؟ كان يقرأ في رواية بعنوان "نهار البومة"، وإذا به يتوقف أمام مشهد وصفه ب"الشفافية" سأل نفسه: لماذا هو شفاف؟ لا يدري، ولكن ربما لأن كلمة شفاف هي صفة لشيء يمكن رؤية الأشياء من خلاله، فهو يشف، يسمح بالنفاذ الى ما هو أبعد منه، قد يكون لوحا زجاجيا، وربما تكون عيونا فاتنة تجعله يطل على روحها ومشاعرها، وربما رائحة ذكريات قديمه تحدث روحه …

قرأ في المشهد:"إنتابه إحساس بأن هناك شيئاً ما خارج موقعه، أو هو غائب عن الساحة في تلك الساعة، بالضبط كما يختفي شيء ما فجأة من مألوفنا اليومي، شيء يسكن في مشاعرنا حتى لا نعود ننتبه إليه، إلا أن غيابه أو انتقاله من موقعه المعتاد يولد فينا فراغاً صغيراً أو إحساساً بضياع شيء ما، حينها تبدأ أذهاننا بإطلاق ومضات تضيء وتنطفيء بتواتر، مثيرة لدينا الانزعاج والغضب، ولا تنتهي هذه الحالة إلا عندما تستعيد أذهاننا صورة ذلك الشيء الغائب." ص 17

هذا المقطع شفاف لأنه يتحدث عن لحظات مر بها أغلبنا في لحظة من لحظات حياته اليومية، عادة ما ندون هذه اللحظة ولكننا لا نكتبها، ندونها في ذاكرتنا، في أرواحنا، فهي خفيفة كنسمة عابرة ولكنها جارحة كغبرة حملتها نسمات ربيعية بالخطأ لتدخل أعيننا، نستغرب التعارض والازدواجية الجارحة بين النسيم الجميل و ما يحمله من جراح.  

بعض الأحيان ندخل الى البيت أو المجلس أو الى غرفة من الغرف، نشعر بأن هناك شيئاً مختلفاً، ما هو؟ لا ندري، نشعر بالقلق وتبدأ ذاكرتنا بإطلاق نيرانها الملونة بحثاً عن المفقود، نبدأ بالنبش في ذاكرتنا لعلها تسعفنا في تفسير السر، يهمنا أن نفك السر، ربما لإسكات هذا القلق أكثر من معرفة ذلك الشيء المختفي.

فجأة نعثر على خيط الحكاية السرية، نكتشف بأن لوحة فنية صغيرة كانت معلقة على الجدار قد اختفت، أو تم تغيير موقعها أو ربما استبدلت بلوحة أخرى مختلفة .. نبتسم ويعلونا الصمت والتأمل، ألمثل هذه الأشياء البسيطة ينتابنا القلق والخوف؟.

كان كل ذلك مقدمة لما كان يضمره صاحبنا من بوح، ماذا لو أردنا أن نجعل من هذه اللقطة حالة أكثر درامية (هكذا تساءل)، سوف نجعل الشيء المفقود هو كرسي خشبي ينشر ظلال روح خاصة في الركن الجنوب الغربي من صالة الجلوس التي تطل نوافذها المفتوحة على الحديقة، والسماء مؤثثة بصراخ الصغار ليل نهار، وركضهم خلف شيئاً ما قد تكون كرة صغيرة أو مجرد حذاء يتقاذفونه، يستمتع بلعبة تمييز أصوات الأحفاد .. هذا محمد، هذا الشقي الصغير ..، كرسي كان يتمدد عليه رجل عجوز غلبته الشيخوخة فلم يبق منه سوى الرأس، فهو يسمع ويتذكر ويرى ويميز اِلأشخاص ويتعامل بالإشارة مع أبنائه وأحفاده ..

حين انتقل هذا الرجل الجليل الى جوار ربه، كان صاحبنا في سفر بعيد لفترة طويلة. ولهذا حين دخل الصالة لأول مرة بعد وصوله، كان كل شيء فيه يقول له بأن هناك شيئا مفقودا، في تلك اللحظات اختلط عليه الخبر القديم بالواقع، هو عرف خبر الرحيل في حينه وحزن وبكى واستقبل المعزين في غربته، ولكنه لم يقف مثل هذه الوقفة لكي يعايش رحيل الخيال مع جسد صاحبه، لم يعايش مراسم نقل الكرسي الحزين، مثل هذه اللحظات والمراسم هي التي تدخل المشهد الى رحم التاريخ، الى الماضي، بدونها يبقى الصوت حاضراً والروح مرفرفة.

هذه كلها صور ولحظات كانت تتراقص متراكمة مع الأيام وهي تنتظر لحظة وصوله بفارغ الصبر لكي تؤدي رقصتها الختامية، وتنزل الستارة الى الأبد معلنة نهاية مشهد مهم في حياته.  

حين انتبه فجأة لتلك اللحظة المعلقه في رائحة المكان وذاكرته، خارت قواه وبدأ بالبكاء الذي صار يتصاعد لحظة بعد أخرى، وانهار جالساً على أحد الكراسي.

خافت والدته مما كانت تراه أمامها، كانت حائرة لا تدري ماذا حدث لإبنها، ولكن حين سألها عن التفاصيل، شاركته البكاء، وشرحت كيف أنه في فجر ذلك اليوم لم يحرك رأسه ولا عينيه، رحل بصمت وهدوء كأنه يناغي الطبيعة. قام رجال الحارة بالواجب المعروف، ولكنهم تركوا لنا محاولات الإجابة على أسئلة الأطفال كل يوم، أسئلتهم المربكة والمحيرة عن الموت والحياة والجنة والله وهل سيدخل جدهم الجنة أم لا؟ .. ولكن بقي الكرسي مكانه. الكل يخاف الإقتراب منه، لا أحد يستخدمه، ولا أحد تجرأ لنقله الى مكان آخر حتى يتم الإستفادة من المكان وإعادة ترتيبه.

في أحد أيام الربيع خرجت العائلة في رحلة الى الساحل منذ الصباح الباكر حتى المساء. حين عادوا اختفى الكرسي، لم يعلق أي منهم على ما حدث، ولم يتحدثوا في الموضوع أبداً، لم يسألوا أين وكيف ولماذا ومن أخذ الكرسي؟ وساد الصمت حتى هذه اللحظة.

عيد الناصر