loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

صوت ضائع

breakLine


نايا ناصر |شاعرة وكاتبة سورية

 

يمشي مسرعاً يتلفّت يميناً وشمالاً، هناك مَن يلحق به فجأةً على مفترق الطّرق تباطأت خطواته، أيّ اتجاهٍ يسلك؟
سأل نفسه ودون أن يختار دفعه الخوف إلى الغابة، وخلف شجرة خروع كبيرة تميل أغصانها إلى الأرض مُفَضّلة الهاوية على السّماء والتّراب على الماء سمع صوته يبكي، وبخطواتٍ جريئةٍ اقترب منه فابتعد صوته أكثر. 
 كيف يلحقُ صوته وهو لا..! يستطيع أن يناديه، ضرب حنجرته بقسوة فخرجت منها حشرجةُ شخصٍ يختنق بذبابة،
وما أن فرغ من محاولاته بالصّراخ تناهى إلى مسامعه صوتُ أوراقٍ تئنُّ تحت خطوات ثقيلة، استدار باتّجاه الصّوت فإذا بذئبٍ عجوز يعرج ويبدو عليه الحزن الشّديد، وحين التقت أعينهما فرّا هاربين كلٌّ باتجاه. 
 اختفى صوته في ضجيج الغابة، كانت أنفاسه الصّوت الوحيد الّذي يميّزه في تلك الجّلبة. 
حيث بقي في الغابة لساعاتٍ يبحث عن صوته، يفتّش وردةً، يقتل غزالةً ويفتّش رحمها لعلّه يجد كلمةً واحدةً فقط. ضرب عشّاً إذ اعتقد أنَّ صوته مختبىء بالقشّ، هربت العصافير، حاول إمساك زقزقة واحدة ليقول بها: أين صوتي؟! 
 انتظر اللّيل كي يحلّ مغالباً النّهار كما هي عادته ليقتفي أثر صوته من جديد، وما أن تخلّت الشّمس عن الأرض كما تفعل كلّ يوم، وغطّتها بملاءة زرقاء داكنة، وتلوّنت الغيوم بآخر نثرات الضّوء، نامت الغابة وبقي مستيقظاً يفكّر ويفكّر...
أين اختبَأَ صوتي ولماذا هرب؟! 
ماذا فعلت وما هي آخر كلمة قلتها ليقع الخصام؟ زحف البرد إلى أطرافه حتّى وصل قلبه، صار يرتجف كفرخ دوريّ، شعر أنّه يفقد الوعي، سمع صوت أمّه يرفرف أمامه، وحين لم يستطعِ الإجابة على مناداتها رحل صوتها إلى جوف الغابة مهرولاً..
 في الصّباح استيقظ على معزوفة للعصافير مجبولة بريحٍ غريبة، حاول مقايضة بلبل يقف وحيداً واستعارة صوته غير أنَّ الأخير كان يُشير إلى فتاة خرجت من صِدفة، إذ لم تكن غير زوجته المتوفّاة! تقدّمت خطوتين باتجاهه تحمل إليه فنجاناً من
 القهوة اعتاد أن يشربه في مثل هذا الوقت من النّهار. 
قالت له: "لماذا"  ثمَّ أجهشت بالبكاء، فهو لم ينبت بكلمة واحدة ليقول لها تعالي معي لأنّه يريد الرّحيل مرّة أخرى. غادر مسرعاً، كان لرشفة القهوة طعمٌ دافىء، خاف أن يجرّه الحنين من رأسه، وهَمَّ يبحث عن صوته في صدى الغابة...
العشب الطّويل في الغابة لا يبالي بأحد، هذا ما فكّر به وهو يدوسه بغضبٍ شديد. تعثّر بكرةٍ ملوّنة اعتاد أن يلعب بها صغيراً، ثمَّ أعادها لطفلٍ  يُحملق به دون أن يرمش"ما الّذي جاء بطفلٍ إلى هذه الغابة"؟! 
أصبح الصّمت بينهما مبهماً تماماً، مما جعل للخوف طريقاً ممهداً إليه وبالكاد استطاع أن يُفلت منه ويهرب في اتّجاهٍ آخر. 
حتّى أنّه في طريقه الجديد لم يستطع أن يُخمد تمرّد حذائه الثّرثار، كيف يقول له اخرس؟! 
يضربه بالأرض فتزداد ندب الحذاء و ثرثرته، كاد أن يُجن، يضرب الحذاء بالأرض مرّة أخرى فيصير ألم ساقيه لا يُحتمل، لقد مشى كثيراً والحذاء يريد أن يستريح، "هوّن عليك" قالت امرأة ترتدي ملاءة ذهبية وهي تمدُّ يدها تُعيد إليه ثلاثة أسنان، واعتذرت عن تحقيق أمنياته فيما مضى لكنّه امتنع عن أخذها، وضعها في يدها وشدَّ عليها، أصرَّ أن تحتفظ بها وأشار بيده بأن تحاول أكثر. وحينما بدأ يفقد الأمل بعودة صوته، أخرج من جيبه المثقوب صورةً راح يتأمّلها لطفلٍ يمصُّ أصبعه، 
"من هذا الصّغير"؟!
ابني.. 
"ثمَّ شهق حين لاح له
أن للطّفل عينا ذئبٍ عجوز" 
مَن هذا الطّفل، ولماذا أحمل صورته؟! قذف بالصّورة بعيداً، وهمَّ بالرّكض. 
"هناك من يلحق بي"، بدأت أنفاسه بالانقطاع يركض باتجاه الضّوء "هناك من يلحق بي"  صرخ ثمَّ سقط.. 
عندما استيقظ وجد نفسه خارج الغابة، في منزله ممدَّداً على سريره، كان رجلاً في السبعين من عمره يلحقُ زمناً معقوفاً حين أضاع صوته، إذ إنَّ صوته كان في رأسه طوال الوقت يتبعه، والتقيا في لحظة صحو حيث تناثرت أمنياته خلفه أسناناً منخورة ونكاتاً غير مضحكةٍ في لحظة التقائه بأعين طفلٍ تشبه عينيه وكأنّهما ذئبٌ واحد...!