loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

فراشاتُ البلاطِ الأحمرِ

breakLine

عماد أبو زيد/ كاتب مصري


لم يكن هو كرسي السَّيد سمير جاري؛ فكرسيّ السَّيد  سمير له مواصفاتٌ خاصَّةٌ، نفذها بنفسِه. أذكر أنَّ محاضرًا أَتى لنا في المدرسة الثَّانوية الصِّناعيَّة قبل نحو ثلاثة عقود، تحدَّث مسهبًا عن المنتَجِ الوطنيِّ - كلامُه كان على عيني وراسي  كما يقولون في اللغة الدَّارجة - إلا أنَّه عندما رفع يده في الهواء؛ ليَنشَّ ذبابة بعيدًا عن وجهه انزاح كُمذ القميص عن رُسغه، لتبدو السَّاعة "الكاسيو" الياباني واضحةً. ومنذ أسبوعين توجَّهتُ للقاء شخصيَّة أُجلُّها، لها إسهاماتُها العلميَّة الملموسة، أَفهمتُ سكرتيرته أنِّي قادمٌ إليه وفقًا لدعوةٍ مُسبقة منه، وأنَّ ثمَّة مودَّة بيني وبينه، عندما رأيتُها تتصرَّف من تلقاء نفسِها؛ فتُوهم كلَّ واحدٍ يسأل عنه بأنَّ معه ضيوف أو أنَّه في اجتماع مغلقٍ؛ قد يطولُ. لازلتُ أذكر حديثًا لهُ منذ فترةٍ عن الوطنيَّة، وكيف جابه المهاتما غاندي المحتلَّ؟. احترامي للرَّجلِ لم يقل عن احترامي له وهو وزير، بل على العكسِ؛ فمقابلته وهو وزيرٌ حيث المسئوليَّات المُلقاة على عاتقه، وانشغالاتُه من فوق مقعد الوزارة الوثير الدَّافئ، قد تمسّ أسلوب تعامله مع النَّاس بسوء. بصمةُ الحضارة الغربيَّة تتجلَّى في أثاث مكتبه، ناهيك عن زيِّه الشَّخصيِّ أيضًا، لاجُرمَ في هذا؛ فالحضارةُ الآنية نتاجٌ تراكميٌّ لقرائح البشر جميعًا. جهازُ التَّكييف في مواجهتي مباشرةً، استأذنتُه في الجلوس على كرسيٍّ آخر، خاصَّةً أن مكتبه الفخم مُتَّسع، وقد طلبتُ إليه أن أنتقل من وزارة التَّعليم إلى وزارة أخرى، وأنا على درايةٍ بأنَّه لازال على صِلةٍ وثيقة بالسُّلطةِ.
- هذا موضوعٌ ليس يسيرًا؛ لكنِّي سأُحاول مساعدتك.
- لكي أستمرَّ في عملي لابدَّ أن أكون على اقتناع به، هكذا علَّمتمونا.
- تخصُّصك بهِ عجزٌ، وأنت أفضل من غيرك، أم أنَّك تريد أن يأتون بأناسٍ من الشَّارع مكانك.
كان السَّيد سمير جاري أتى بكرسي السُّفرة بعد أن أفرغ حشوه (السّفنج، والكرينة، والسّوست، والخيش) وأجرى عليه بعض التَّعديلات؛ ليضعه في حمَّامهِ البلدي؛ كي يتسنَّى له قضاء حاجته. كان الجزء الأكبر من دخله الشَّهريِّ يقتطعه لعلاج التهاب المفاصل الذي يشكو منه، ولم يكن بمقدوره أن يحظى بحمَّام أفرنجيٍّ.
ثمَّة كرسيٌّ آخر، ليس فخيمًا أو مُّذهبًا كالذي يجلس عليه أيُّ مسئول، وليس أشبه بالمقعد الخاصِّ للمُقرئ  في سرادق العزَّاء، أذكر أنَّني حادثت ُ أخي الأصغر مُخلصًا ناصحًا له أن يحفظَ ما يتيسَّر له من القرآن، ويُجوِّده؛ فصوتُه حسنٌ. لم تكن غايتي أن يعرج به إلى الجنَّة، كما كنت أُشجعه على الغناء؛ فسواء أصبح مُقرئًا أو مُطربًا، سيغدو الأوفر حظًا من الصِّيت والشُّهرة، فضلاً عن المال.

وليس هو بكرسي الأستاذ فوزي ناظر مدرسة أحمد عرابي، الذي يحشد  إلى جانبيه بيارق عدة، كأنه قائد كبير، لايطيب له الجلوس إلا و أعلام ألوية جيوشه تخفق أمام عينيه، بينما علم الوطن بحجمه الكبير يبدو في خلفيته. باح في إحدى المرات لعم حسني العامل بالمدرسة، أنه كان يحلم في صباه أن يكون وكيلاً للنيابة أو قاضيًا، روى البعض أنَّه كان يذهب إلى المدرسة وقتما شاء، دون أدنى التزام بتوقيت التَّوقيع في دفتر الحضور والانصراف، ليس معنى هذا أنَّ المدرسة تعمُّها الفوضى في غيابه، سائر المدرِّسين يتحاشون غضبه؛ كي لا ينالون عقابًا منه في أيَّة لحظة؛ فقبضتُه على المدرسة، وإن لم يكن داخلها، تفوق وجوده بها، بفضل رجاله وعيونه، ذات يوم هاتفه أحد المدرِّسين أثناء الحصَّة الثَّانية، مستغيثًا جرَّاء قدوم لجنة مُتابعة إلى المدرسة؛ وقد أعربت عن عدم رضائها، حضر مُسرعًا من بيته، ودون تردُّد حين دلف إلى حجرة مكتبه، نَهَرَ السَّيِّدة التي تجلس على مقعده، آمرًا إيَّاها بالجلوس على مقعدٍ آخر، بل تجاوز ذلك، وطردها هيَ ومُرافقيها، وماكانت هذه السَّيِّدة التي شاهدها الجميع، وهيَ غارقةٌ في دموعها غير وكيل وزارة التَّربية والتَّعليم بالإقليم.

وهو غير مقعد الفنَّان أوجست رينوار، الذي أجلس عليه الآنسة الجميلة في إحدى لوحاته.
كان الكرسيُّ في حمَّام المحطَّة العتيقة؛ هذه المحطة واحدةٌ من بين محطَّات عدَّة، شُيِّدت على أول خطِّ سكَّة حديديَّة في مصر، كنَّا في حصصِ التَّاريخ نقول لأولادنا: "إنَّ مصر ذاكرة الحجارة؛ أقيم بها ثاني خط سكة حديد على مستوى العالم!"، المحطَّة بمبانيها القديمة تُقارب الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في عمرها، وأنت بين جناباتها يواتيك إحساسٌ أنَّك في رحلة إلى الزَّمن الغابر، يُعظِّم من قيمتها التَّاريخيَّة سقوفها الخشبيَّة التي أخذت أشكالاً هرمية، وغُطّيتْ بالقرميد الأحمر، كانت تسرّ الرَّائي، بما تُتيحه لمياه الْمُزْنِ في الشِّتاء، أن تنزلق عليها في نعومة، مُحاكيةً جمال العمارة في لندن، وجلاسكو، وأدنبرة، كان المحافظ قد رفض عرضًا بهدم مجموعة المحطَّات التي تقع في نطاق محافظته، مقابلَ إنشاء محطَّات جديدة بديلة عنها، كانت مُحاججته قويَّة لهيئة السِّكة الحديديَّة، وللرَّجل الكبير في الحكومة، أذكرُ قوله في إحدى الصحف:  " ليس هناك ما يدعو لهذا البذخ أو السَّفه، مادامت مباني المحطَّات غير مُتصدِّعة أو موشكة على الانهيار، كشأن المدارس الجديدة التي أنشئت عقب زلزال 1992، ثم لسنا في حالة رفاهية تسمح لنا بإنفاق أموال دافعي الضَّرائب في أشياء لا تعود عليهم بالنَّفع"، المحطَّة تحمل لي العديد من الذِّكريات، على جذع شجرة الزَّنزلخت برصيف 2، سجَّلت بمُدية صغيرة، حُبِّي لـ حنان، وتاريخ أوَّل لقاء جمعنا، وتحت مظلَّتها جلسنا نبثُّ أشواقنا، ونُطلقُ لأحلامنا العنان، ونحن نتأمَّل عبقرية ذلك الماهر الذي صمَّمها، وأحكم اصطفاف أخشابها بصواميل متينة، لم يقربْها مِفتاحٌ ربط إلى هذه اللحظة، مساء أمس كنتُ برفقة وسام في المحطَّة؛ أضحت كتل خرسانيَّة، وكومات تراب، هالنا الأمر؛ فمبنى المحطَّة الذي نألفه منذ أن تفتَّحت أعيننا على الدُّنيا تحفةٌ معماريَّة، تستعصي على الهدم، بين حين وآخر تقوم السُّلطة بإضفاء الشَّرعيَّة على نفسها بقيامها بإجراء تغييرات في صفوف الوزراء والمحافظين، تزامَنَ وجود المحافظ الجديد للإقليم مع وجود آرئيل شارون رئيس وزراء إسر --ائيل في الأراضي المحتلَّة، وقد منحه بوش  W في ولايته الأولى للحكم لقب رجل السَّلام، كما يتزامن وجوده أيضًا مع بريمر الحاكم العسكري الأمريكي في العراق، البلاطات الحمراء لسقوف بنايات المحطَّة ومظلَّاتها المتناثرة، تحمل نقوشًا غائرة، ورسومات بارزة، وسام يتحسَّس بأصابعه قطعة من بلاطة مُتحسرًا:

- شايف الفَرَاشة!.
أشتمُّ رائحة الحبيبة، أحوم حول المكان الذي همسنا فيه بحبِّنا؛ لا أدري لمَ أتذكر أبياتًا شعريَّة من معلقة لبيد الآن؟، كانت المرارة تعتصر أفئدتنا، والدّموع تترقرق في مآقينا، خِِلتُ أنَّني أعيش بين أطلال معسكر الـ U.N في العريش، الشَّاهد الباقي على يوم 5 حزيران 1967، عند زيارتي لها قبل بضعة أعوام أو ربَّما أعادتني المحطَّة المهدمة بالذَّاكرة إلى آثار الأقصر الشَّاهدة على الحُكَّام والمحكومين منذ فجر التَّاريخ. 
الكرسيُّ أُختُطَ بقلم أسود على حائط حمَّام المحطَّة، نفثات القلم على الحائط لا تُوحي أن صاحب الرَّسم كهلٌ أو شيخٌ كبيرٌ، خطوطه تنمُّ عن أنامل أصابع لها البكارة في العمر، كان الكرسيُّ بسيطًا للغاية، خاويًا على الجدار أمام عضوي الذَّكَري.