loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

مئذنة الحي

breakLine

 

 

 

غزلان شرفي | كاتبة مغربية


 

"ما أقرب اليوم من الأمس، ولو أن بينهما  ثلاثة عقود من الزمن" كلمات تمتم بها عبد الله، وهو يقترب من البوابة الضخمة للمعمل، عيناه إلى الأرض، تملؤهما غشاوة من دمع، ورجلاه متثاقلتان كأنهما تتهيبان الوصول إلى خط النهاية. لطالما كان أول الوافدين، وآخر المغادرين طوال سنين من المواظبة والإخلاص في العمل، مما جعله ينتقل من مجرد عامل بسيط يقضي سحابة يومه في تقطيع الأشكال الهندسية للزليج، وإعادة تركيبها وفق فسيفساء معينة إلى مراقب عام لجميع  مراحل الإنتاج.
كان  يعشق عمله لدرجة لم يستوعب معها أنه قد بلغ سن التقاعد، ولابد له من التوقف: "إنه القانون" حِمَم من لهب اخترقت أذنه اليمنى حين عانقه مديره، وحاول  أن يُهَوّن عليه.
كان يود أن يقول ويقول...  لكن الكلمات ما غادرت حنجرته..
وقف في شرفة منزله صباحا، يتأمل البنية الهندسية للحي الذي يقطن فيه منذ صباه؛ مسحت عيناه جميع جوانبه وزواياه. دقق النظر في اللافتات، في أبواب الدكاكين،في واجهات المتاجر،في الوجوه... بدا له كل شيء مختلفا؛تفاصيل كثيرة غابت عنه، بنايات جديدة تناسلت كالفُطر.
حانت منه التفاتة نحو الجانب الشرقي، فلاح له ظل شامخ كأنه يحرس الحي من عل. ما ظن أن المسجد الذي سمع بقرار إنشائه في ساحة الحي منذ شهور قليلة قد اكتمل وانتصبت مئذنته بهذه السرعة.
حضّر فنجان قهوته الصباحية، وبدأ يرتشفه وعيناه لا تفارقان العمال وهم يلبسون المئذنة ثوبها الزاهي من الزليج قطعة قطعة: لا الطريقة ولا الخلطة التي يتبعونها راقت له. أسبوع مر وهو يتابع تفاصيل العمل خطوة خطوة،حتى تشكلت لديه قناعة بأن ما قام به العمال يشوبه الكثير من الغش. تدافعت نبضات قلبه حتى صم صوتها آذانه، وبلغ إنذارها مخه فتخيل حجم الكارثة  إذا سقطت مربعات الزليج على محيط المسجد، فكيف إذا تزامن الأمر مع موعد صلاة.
تفصد جبينه عرقا، وغادر البيت مهرولا ليخاطب رئيس العمال الذي طرده وكال له سيلا من الشتائم. حاول التواصل مع مهندس المشروع، لكن ما اهتدى إلى مكتبه. عاد إلى بيته مهموما،ونام  فور استلقائه على السرير، لكن كابوسا لعينا حرمه  الكرى بعد أن رأى جثثا ودماء تغطي ساحة الحي،تنعاها أصوات الثكالى...
ما إن  أعلنت الشمس بداية يوم جديد، حتى غادر متوجها نحو مقر المقاطعة
-القائد غير موجود، عد لاحقا.
لن أعود، قال في قرارة نفسه، وهو يلوح لسيارة أجرة توجهت به نحو عمالة المدينة.
-املأ هذه الورقة، واكتب سبب الزيارة، وسنرسل في طلبك.
لملم حقيبة ملابسه، وغادر الحي لا يلوي على شيء؛ مرت ستة أشهر وهو يتنقل من بيت قريب لآخرقبل أن يحن لبيته ويقرر العودة. سيارات إسعاف عديدة تسد مداخل الحي؛ نقل بصره بين الجموع دون أن يتجرأ على النظر جهة المئذنة. أحاطت به عيون كثيرة،وأخذته بالأحضان أياد ممدودة تهنئه على نجاته؛فقد انهارت البناية التي تضم بيته فجر اليوم بسبب إضافة صاحبها لطابق آخر فوقها.
ازدرد ريقه بصعوبة، وأدار رأسه نحو المئذنة التي اكتست بعد عريها، لكن بثوب الحداد.