loader
MaskImg

السرد

يعنى بالسرد القصصي والروائي

ناي

breakLine

 

 

علي السجاد || قاص عراقي 

 

 

 

لا ،لا، مَن فعل هذا! مَن قتل ناي؟ بدأ بالصراخ والعويل وهوَ يُكسر أغراض المنزل، ومِن ثُم مزق قميصه وظل يضرب صدره كما تفعل النساء في مجالس العزاء.

خرج إلى الشارع وهوَ لازال يلطم صدره حتى صار أحمر من شدة الضرب.

تجمهر الجيران حولهُ ناظرين إليه بازدراء وهوَ يُنادي" قتلوا حبّيبتي، قتلوا ناي". 

وبعَد أن اكتفى من المُشاهدة، تقدم نحوه جاره الشاب مُصطفىٰ ذو شَعر أسود ساطع  مِن شدة اللمعان، وطولٌ فارع، عريض المنكبين، مفتول العضلات. 

احتضنهُ وربت علىٰ ظهره وسحبه إلى باب البيت والآخر لازال يقول: ماتت ماتت مات... قاطعه مفتول العضلات :

_ لا بأس وِسام دعنا ندخل ونتكلم داخل المنزل.

وِسام شاب يبلغ مِن العمر عشرين سنة، تعرضت أمهُ لِلقتل عِندما كان في السنة العاشرة من عُمره، وتم ذلك علىٰ يد والدهُ السكير.

كانت أم وِسام تُعاني مِن مرض القلبّ،زوجها يافعٌ غير قادر علىٰ تكفل العلاج لزوجته، خنقها بيديه وهيَ نائمة حيث كان وِسام يراقب ويشهد بِصمت مِن خلف الباب، و علىٰ أثرها تم إعدام أباه،بعَد التحقيق في أمر الجُثة ومِن ثُم أُصدر حُكم الإعدام؛بقي وحيدًا في هذهِ الحياة ليس لديهِ أقاربٌ تأويه. الجيران كانوا يعتنون بوِسام لِفترة طويلة.

بقي وِسام مُنعزلاً عن الناس، لا يقترب مِن البشر،يجلس كثيرًا في عتبة الباب أثناء النهار ويأوي لِلفراش في المساء ، وسّدهُ مُصطفىٰ علىٰ السرير وأعطاه بعض المُهدئات وبعدَ دقائق قال مُصطفىٰ:

_ تكلم وِسام مَن قتل ناي؟

أجاب وِسام وبِصوت مبحوح 

_ الناس، الناس هم مَن قتلوها.

مصطفى يعرف أن لا أحد يعيش معه أو يتواصل معه فسأله : 

_ أين الجثمان إذًا؟ 

_في غرفة النوم على سريري.

ابتسم بِحُزن  وذهب إلى الغرفة التي أشار لها وِسام.

بحث في الغرفة كثيرًا وفي خزانة الملابس وتحت السرير فلم يجد أيّ جُثة! لكنهُ شاهد قطة صفراء نائمة علىٰ السرير لا تتحرك،لمس ذيل القطة الصفراء بسبابته و لم تتحرك وخزها بنفس الإصبع وكان ينتظر أن تفز وتقفز لكن لم تفعل شيئاً ! 

رجع إلى وِسام، وقال: 

_ هل تمزح معي؟ لا يوجد أيّ إنسان في الغرفة فقط هذهِ القطة وهيَ نائمة مثل أبي حين يسكر! 

 رد عليه وهو يبكي ويقول: 

_ هذهِ هيَ حبيبتي الوحيدة، قتلوها .

ثم عاد للصراخ والنحيب وضرب نفسه،أمسكه مُصطفىٰ وأعطاه جرعة كبيرة من المُهدئات. 

استرخى وِسام مرة ثانية وأغمض عينيه 

سأله مصطفى:

_ مَن قتلها ولماذا؟ 

_ قتلوها لأنها كانت مريضة.

_ لكن لم تقل مَن قتلها؟

_ لا أذكر مَن لكن أنا بريئ! 

_ تذكر إذًا حتى أُساعدك قبل أن تأتي الشرطة.

_ هي ماتت لا يهم إذا آتت الشرطة.

حاول مُصطفىٰ أن يعرف مَن القاتل لا أكثر.

أما الشرطة فهيَ لا تحاسب مَن يقتل الحيوانات.

 بقي المسكين يردد علىٰ مسامع اليتيم والوحيد وكُلّ مَن يراه،صار وِسام لا ينطق بِغير "حبيبتي ماتت، قتلوها، قتلوها" 

قال مُصطفىٰ وهوَ يمسح علىٰ وجه وِسام 

_ يمكننا أن نجعلها تعيش إذا قُلت مَن قتلها فقط! 

_ أنا لستُ مجنوناً لِتسألني مثل هذا السؤال، لماذا لم تعش امي إذًا وأبي اعترف بقتلها.

ظل مفتول العضلات حائًرا والصمتُ عَم في المكان إلى أن تكلم اليتيم بعد ما انتشر مفعول المُهدئ في جسده: 

_كانت حبيبتي تلعبُ معي ولا تفارقني، تنامُ في حضني، لا تخرج من البيت أبداً، تأكل من طعامي حتىٰ.

كانت تضع يدها علىٰ خدي عندما أبكي في الليل وكأنها تواسيني  علىٰ  تجرع الوحدة والفُقدان! 

ذات يوم خرجتُ من الحمام ولم أجدها في البيت بحثتُ عنها وبقيت أناديها،لكنها لم تأتني هذهِ المرة!

 لا أعرف أين ذهبت. 

بقيتُ أنتظرها ولم أخرج مِن البيت،مر وقتٌ طويل، ثم شاهدتُها تنزل مِن سطح البيت، ركضتُ عليها وعانقتها وقبلتها وهمستُ في أُذنها أين كنتِ يا صغيرتي؟

 لم تُجب كانت مُتعبة ومُتسخة وهذهِ المرة الأولىٰ التي أراها بهذهِ الحالة الحالكة والبائسة. 

سكت وِسام ثُم عاود النياح والصُراخ : قتلوها حبيبتي قتلوها ماتت ما... 

أعطاه مُصطفىٰ جُرعة أُخرى وبعد دقائق قال مُصطفىٰ : أكمل .

أكمل وِسام وقال: 

بقيتْ حبّيبتي يومًا كاملًا خامدة في حضني وعيونها ذابلة.

في صباح اليوم التالي أخذتها إلى عيادة بيطرية، 

ذهبت سيرًا علىٰ الإقدام لا توجد أيّ وسيلة نقل والشوارعُ خالية من البشر ، ساعات مِن السير حتى وصلت إلى البيطري فَوجدت شخصاً كبيراً في السن، أصلع، وحليق الذقن، يرتدي نظارات سميكة الزجاج، بشارب كث.

قلتُ له: 

_حبيبتي تُعاني من شيء ما هلا ساعدتها؟

_أعطني أجر الفحص أولاً.

_لا أملك المال خُذ هذا الحذاء الرياضي الجديد، إنه هدية مِن جاري ، أهداه لي بعد ما اشترى حذاء جديد لابنه. 

ضحك الأصلع وأشار لي بالخروج مِن العيادة وقال بِضحكة ثقيلة :

_دعَ الحذاء يعالج القطة.

 خرجتُ وعند باب العيادة نظرت نظرة أخيرة للأصلع وقلت :

_ الحذاء أرحم مِنك يا قبيح، سوف تموت ويسلبون منك حذائك ثُم خرجت راكضًا.

 أسير وأتلفت إلى الخلف خائفًا من ذاك القبيح. 

فكرتُ أن أعود إلى البيت لكن!

 فكرةٍ زاحمت بالي وهيَ أن أذهب إلى المستشفى العام لِيقدموا لي المساعدة.  وصلتُ إلى المستشفى العام وفي باب المستشفى أوقفني الحارس مستفسرًا علىٰ قدومي فَقلت لهُ :

_ قطتي مريضة تحتاج الى مُساعدة. ضحك هوَ الآخر بِصوت عالٍ وبقيتُ أنا وحبّيبتي ننظر له بعجب! 

قلتُ له

_ لا أفهم،ما المُضحك؟

_الناس تحتاج العلاج هُنا أكثر مِن القطة ولا تجد مَن يُقدم لها المُساعدة! 

أ أنتَ مجنون ؟ خُذ قِطتُك البائسة واذهب إلى مُستشفى المجانين، 

 وضحك مرة اخرى.

الحارس كانت بيده بندقية خفتُ أن أقول له

_من يضحك علىٰ سوء المعيشة و سَلب كرامة الانسان، هو المجنون.

مِيو، مِيو، كانت القطة تطلب الرحمة، قطتي الجميلة ضعفت كثيرًا،

وداست عليها الحياةُ هيَ الأُخرى. 

كنت أُصبر عليها و امسح رأسها براحة يدي علىٰ أمل أن يَخف ما يؤلمها.

طريق البيت كان طويلاً شيئاً ما،

خبأتُها تحت قميصي وحضنتها بقوة.

بين خطوة وأُخرى أقول لها :  اصمدي كوني قوية لا تضعفي،تبًا للوحوش، العذاب والألم للوحوش. 

وصلتُ إلى البيت ،وضعتها علىٰ سريري وقبلتها، ثُم ذهبتُ لِأُعد لها الحليب وفتات الخبز فهيَ تحب هذا الطبق.

 لاحظتُ أبي يخرج مِن الغرفة ، ركضت إلى …

عادت نوبة الصُراخ والعويل والضرب علىٰ الصدر مِن جديد، 

حبّيبتي قتلوها ، ماتت حبّيبتي.