loader
MaskImg

المقالات

مقالات ادبية واجتماعية وفنية

ساعي المقابر في لحظة وطن

breakLine


دلال حامد الزبيدي / قاصة عراقية 


كان يسير في منتصف الليل على الطريق، لا يأبى القدر، متغطرس يعاند السماء، يمشي كأنه
سكير قد تحررت روحه من جسد هرِم، يدمدم بصوت خفيف "موطني موطني الجلال
والجمال ليس في رباك والحياة والنجاة من سواك".
كل من حوله يخال لهم بأنه  قد جنّ عقله ، ولكنه هوى في حب وطن بات رمادًا ، حمل نعليه
على صدره و أكمل حافياً، فسأله أحدهم "لمَ خلعت نعليك؟، إن الأرض تلسع كل ما يدبِ
عليها!!". فأجاب وهو يحتضن نعليه "حلال على أرض بلادٍ جف ماءه فاضت دمائه، لقد قُتل
أحدهم هنا إجلالاً لروحه، فهذه ارض ملطخة بدمائه لا يمكن أن أدوسها بنعالي القذر، لا يمكن
إنها أرض طاهرة " أكمل طريقه وهو يردد "وطني رماد وطني رماد انتشر الفساد انتشر
الفساد".
ظل يجول في الأزقة وهو يلعن الطغاة مساءا وصباحا كل يوم ، ولا يقترب منه أحد، وصل
إلى مقبرة يحمل بيده قطعة رغيف يسد بها رمقه، وقف بإجلال أدى التحية على القبور التي
أمامه، هذا ما يفعله كل مساء، يلتقي بمجموعة من شهداء الوطن الذين لم يعرفهم في أيام
حياتهم في كل يوم يلتقي بقبور جديدة، لا يعرف تأريخهم حتى، فقط ما يقرأه على شاهد القبر 
، يجلس ويتكلم ويخبرهم بكافة الأحداث التي تلت وفاتهم، ظناً منه بأنهم يسمعون أخباره، جلس
على قبر أحد الشهداء " آه أيها الصغير!!، ماذا فعلت بأمك و من أجل من؟!
أتدري أنها عليلة؟!، هل أخبروك ماذا فعلوا فيما بعد ؟!، إنهم أنجاس يدبرون المكر في
أكياس، لقد مكروا للبلاد، أنهم مجوس خدام العداة، أين عمرك الذي هدرت؟
إن أمك تنادي بلا مجيب أنها في حال مرير، عداها لا أحد يذكرك لقد نسيَّ الجميع من تكون
وكيف افنيت شبابك تحت رصاصات قذرة؟، يا صغيري لقد أهدرت عمرك على أرض
مغتصبة، إن بلادي نائمة كلها تحت التراب" جاء عليه من بعيد حَفّار القبور سأله" ماذا تفعل
هنا يا رجل؟، هل هذا الولد من أهلك؟ " فأجابه وهو يقضم الرغيف" لا، بل إنه من وطني "
راح يخبر كل شهيد بما يجري في وطنهم الذي أفنوا عمرهم من أجله، لمن بقي هذا الوطن؟!. 
في صباح يومٍ كان يمر كأي يوم عليه لا جديد يذكر في أيامه سوى القبور الجديدة التي
يزورها، خرج من منزله الذي يسكنه لوحده وراح ينظر إلى أعمدة الكهرباء، فإذا بلافتات
الانتخاب في كل مكان، غطت على لافتات الشهداء في الشوارع، جنّ جنونه وبدأ بتمزيقها
حتى تمزقت أطراف أصابعه، ولسعت الشمس رأسه، وقامت قوة مجهولة رغم أنها معروفة، 
لكن لا أحد يتجرأ على أن يذكر اسمها حتى لِما لديهم من سلطة عتية وطاغية في البلاد، أُخِذ
إلى مكان مهجور معصب العينين، مكبّل اليدين أنه يعي ما يحدث له ولكنه ظل يصرخ " خونة
أنجاس كأنكم حمير يمتطيكم العداة، لقد أصبحتم الجسر الذي يؤدي إلى هلاك هذا البلاد، أني
اقبع وحولي بحر دماء، أرواح في كل مكان، من سيأخذ بثأرها!"،  فُك وثاقة وعيناه، نظر من
حوله رجال بلثام احدهم يخبر الثاني بأن هذا الرجل مجنون، ركله أحدهم علي بطنه، وأخبره
بعدم إزعاج السلطات وتمزيق لافتات الحملة الانتخابية، فأن سعر اللافتة سيكلف حياته لكلفتها
العالية، ضحك بصوت عالي وأخبرهم" من الجيد سماع ذلك، أيعني أني لو بعت إحدى اللفتات
سأتمكن من شراء الطعام الذي أريد!" ثم أردف صارخاً وبصق " لا والذي  فطر السماوات
والأرض إني لأموت جوعاً على أن يدخل في جوفي مالٌ حرام، هذا مال بلادي في لافتات
ورقية رقيعة لأناس وضعاء" سأله أحدهم  لماذا مزقتها اذاً؟ فأجاب" لقد كانت تغطي على
الوجوه الطاهرة، شهداء الوطن الذين ضحوا بأنفسهم وأهليهم من أجل خُدام الشياطين أمثالكم
عُباد المال، يمكنكم تعليقها في مكان بعيد سأبصق عليها المرة القادمة دون تمزيقها".
ظناً منهم أنه مجنون تركوه يرحل، خرج وأطلق العنان لجسده،  ظل يتراقص في الهواء 
راكضا الى المقبرة ليخبرهم بما جرى، إن أبسط الحريات في هذا البلاد قد سُلبت، حرية
الرأي، حرية الإختيار، لقد هدموا كل شيء، تحطمت البنية الأساس في البلاد، راح كل جزء 
فيه ينادي بالدماء، أرض بلادي حمراء، أصاب القلوب جفاف صحراء قسوة، قتل، سرقة،
خيانة، ماذا فعلوا في البلاد؟. 
سار بين القبور من قبر إلى آخر يقصقص لهم حكايات العراق وما جاء على نهريه دجلة
والفرات، كانت أحاديث المساء تسعد خاطره، لقد كان يدرك أن كل ما يحدث مقتبس من خلف 
ستار المسارح التي يقفون عليها بأصواتهم النكراء ، إنها كواليس خبيثة تظهر للعيان كأنها
حكاية سعيدة، شيطان مارد متمرد على عرش الملكوت الاعظم، ينصاع إليه المغمضة قلوبهم 
أنهم كالأنعام تنصاع لصوت الصافرة، ولا تعلم أنها ذاهبة للمذبح، جلس بجسده المرهق جراء
ما حدث له مع السادة الأراذل " لقد أفنيت شبابي وأنا أحمل العروسة التي تطلق الهلاهيل على 
الأعداء، ثم عدت والشيب قد أخد كفايته من رأسي، لم أفرح كثيرا حتى خسرت زوجتي صديقة 
دربي، وكان عليّ أن أعتني بولدي الوحيد، لقد كان ذكراها الوحيدة ورائحتها العبقة، كبر امام
عينيّ، ترعرع على حب أرض هذا البلد، وفي أحد الايام أصرّ هذا الولد العنيد أن يذهب
بعروسته ليهلهل بها على أعداء أرضه في الموصل، لقد كان وطني، وقد سُلب مني برصاصة 
في رأسه، جاءوا به مُكفن برمز العراق، الله اكبر على الطغاة، لقد سلبوا مني العراق مرتين، 
دُفن العراق ها هناك قبره، لا اتجرأ على الوقوف فوق شاهده، إني أشتاق لوطني، أود
احتضانه، وطني الوحيد، ابني الوحيد قد قُتل، ضحى بي من أجل العراق، هنيئا لك أيها الوطن 
فقد عشقك الشباب وزدتنا رهقاً، لا أعلم أيان ألحق بالرحل التي أشرفت الارض على ابتلاعه؟
ومتى سألتقي بفردوس شبابي وولدي الوحيد؟،  لكنني سأمجد العراق ما تبقى من عمري، لعلي
ابلغ رباه، دخل حفّار القبور وجد الرجل مُمدد على قبر ابنه الوحيد، وكزه بعصى يحملها لكنه
لم يستجب، ظن انه يغط في نومٍ عميق حاول ايقاظه فلم يستفق، علم بأنه قد رحل الى أهله "
ها قد على إلى سماك أيها الوطن الرجل، الذي مات، وهو يردد موطني موطني ولم تستجب" 
نظر الى التراب قد كتب الرجل قبل وفاته " موطني... موطني. الجلالُ والجمالُ والسناءُ
والبهاءُ في رُباكْ... في رُباكْ والحياةُ والنجاةُ والهناءُ والرجاء في هواك... في هواك هل
أراكْ... هل أراكْ.. سالماً منعَّماً وغانماً مكرَّماً؟ هل أراكْ... في علاكْ تبلغ السِّماكْ؟... تبلغ
السِّماكْ؟ موطني... موطني.. موطني.. موطني الشبابُ لن يكلَّ همُّه أن تستقـلَّ أو يبيدْ نستقي
من الـردى ولن نكون للعدى كالعبيد... كالعبيد لا نريدْ... لا نريدْ.. ذلَّنا المؤبَّدا وعيشَنا المنكَّدا
لا نريدْ... بل نُعيدْ مجدَنا التليدْ... مجدَنا التليدْ موطني... موطني.. موطني.. موطني الحسامُ
واليَراعُ لا الكلامُ والنزاعُ رمزُنا... رمزُنا.. مجدُنا وعهدُنا وواجبٌ من الوَفا يهزّنا... يهزّنا
عزُّنا... عزُّنا.. غايةٌ تُشرِّفُ ورايةٌ تُرفرفُ يا هَناكْ في عُلاكْ قاهراً عِداكْ... قاهراً عِداكْ
موطني... موطني..". 
تجمع الناس حول جثمانه يتساءلون من هذا؟ أين أهله؟، فأجاب الحفّار والحزن يملأ عينيه" إنه 
ساعي المقابر لقد مات في لحظة وطن"

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

...........................

الاخبار الثقافية والاجتماعية والفنية والقصائد والصور والفيديوهات وغير ذلك من فنون يرجى زيارة موقع نخيل عراقي عبر الرابط التالي :-

www.iraqpalm.com

او تحميل تطبيق نخيل

للأندرويد على الرابط التالي 

حمل التطبيق من هنا

لاجهزة الايفون

حمل التطبيق من هنا

او تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعي 

فيس بوك نخيل عراقي

انستغرام نخيل عراقي